
الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنَّ كلمة العنف في لغة العرب تدور معانيها حول الشدة والقسوة، ويقول ابن منظور: «العنف: الـخُرْقُ بالأمر وقلَّة الرفق به، وهو ضد الرفق»، وعرَّفه أبو هلال العسكري فقال: «التشديد في التوصل إلى المطلوب»، وعرَّفه محمد قلعجي بـ: «معالجة الأمور بالشدة والغلظة»
والتعنيف: هو التعيير واللوم، وتكاد المعاجم اللغوية لا تخرج عن هذه المعاني.
وفي الاصطلاح: الحديث لمفهوم العنف عدة اتجاهات في تعريفه، لعل من أبرزها:
- العنف: هو الاستخدام الفعلي للقوة المادية لإلحاق الضرر والأذى بالذات والأشخاص الآخرين وتخريب الممتلكات للتأثير على إرادة الـمُستهدف.
- العنف: هو الاستخدام الفعلي للقوة المادية أو هو التهديد باستخدامها.
ونجد هذا التعريف يوسع مفهوم العنف ليشمل التهديد بالقوة إلى جانب الاستخدام الفعلي لها بمعنى أنه يشمل السلوك القولي إلى جانب السلوك الفعلي.
ولعلَّ هذا التعريف أقرب للواقع واللغة من التعريف الأول، ذلك أنَّ العنف منبعه التطرف والغلو، والتطرف يبدأ بالعقل ثم ينتقل إلى السلوك.
وقد خلا كتاب الله الكريم من هذه اللفظة، ولكن جاءت نصوصه الكريمة محذرة من هذا السلوك الشنيع، وتضافرت الأدلة من الكتاب والسُّنة على التحذير منه، بل إنَّ الإسلام اعتمد مبدأ الرفق بصورة عامة في جميع شؤون الحياة فجعل منه سمة تُميِّز المسلم عن غيره، وعنصرًا يقوي الإيمان، وفضيلة تزيِّن العمل، وفي ذلك يقول ﷺ في حديث عائشة -عند البخاري ومسلم-: «إنَّ الله رفيق يحبُّ الرفق في الأمر كله»، وفي رواية لمسلم: «إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه»
وروى مسلم بسنده عن عائشة ترفعه إلى النبي ﷺ: «إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلَّا زانه، ولا ينزع من شيء إلَّا شانه». وعن جرير بن عبد الله البجلي أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرِّفق، ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا حرموا الخير». ومما ورد في السُّنة النبوية في الأمر باليُسر وترك العسر قوله ﷺ عندما بعث أبا موسى ومعاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا وتطاوعا». وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: «ما خُيِّرَ رسول الله ﷺ بين أمرين قط إلَّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا».
إنَّه ديننا العظيم الذي جعل للخدم قانونًا وحقًّا يسويهم فيه بغيرهم، وأمرنا بالرفق بهم، فعن أبي ذرٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله ﷺ: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم، فأعينوهم». وقال ﷺ: «من ضرب غلامًا له حدًّا لم يأته، أو لطمه فإنَّ كفارته أن يعتقه». وإنَّه الإسلام العظيم الذي أمر بالرفق حتى بالحيوان، فعن ابن عمر أنَّ رسول الله ﷺ قال: «عِذِّبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض». والأحاديث في ذلك كثيرة متوافرة سُقنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وكلها على أنَّ الرِّفق مبدأ إسلامي أصيل.
فإذا كان هذا شأن الإسلام في التعامل مع الحيوان والرفق به، فكيف يكون شأنه مع ذلك الإنسان المشرف المكرم على المخلوقات كلها؟
ومما لا شكَّ فيه أنَّ العنف يأباه الإسلام، والمجتمع المسلم، ويحاربه، ولا يقبله بأي حال، سواء في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وحتى في الجهاد، وإنَّ حقوق المدني المحارب في ديننا خير من حقوق الأقليات المسلمة في كثير من البلاد التي تزعم قيامها على الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ويكفي أن نسوق نموذجًا واحدًا من وصايا رسول الله ﷺ لأمراء الجهاد، ليتضح جليًّا مدى رحمة هذا الدين وسماحته وأنه لا يرضى بالعنف والقسوة والهمجية حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وهي ساحة القتال بين المسلمين وغيرهم، بل إنَّ البشرية ما تعلمت آداب الحرب، وأخلاق معاملة الأعداء إلَّا على أيدي الإسلام العظيم، والتاريخ البشري خير شاهد على ذلك.
عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلُّوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبَوْا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلَّا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هم أبوا فسلهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقبل منهم، وكفَّ عنهم، فإنْ هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».
وأكثر من ذلك فإنَّ الإسلام ضمن الأمان والحفاظ على أرواح الذميين والمعاهدين، فعن عمر رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ﷺ أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلَّا طاقتهم، بل أمر الإسلام بالبر والعدل مع الكفار إذا لم يكونوا من أعداء الإسلام، قال تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا أنَّ الحكم على الأعمال بأنها من قبيل العنف والتطرف إنما مردُّه إلى الميزان الشرعي الذي يقوم أساسًا على تحكيم الكتاب والسُّنة، والتخريج عليهما وفقًا للقواعد المعتبرة شرعًا.
ذلك أنَّنا رأينا في بعض بلاد المسلمين –فضلًا على بلاد الغرب– أنَّ بعض شعائر الإسلام كـارتداء الحجاب، والمحافظة على الصلاة، والامتناع عن المحرمات من قبيل التطرف والعنف.
فالخلل في مسألة العنف وبروزه كظاهرة لا يمكن لعاقل أن يردَّه إلى الدين ذاته، وإنما مردُّه إلى مؤثرات أخرى داخله وخارجه يأتي بيانها، إذ الشباب من أكثر فئات المجتمع انخراطًا في العنف بحكم التكوين النفسي والفسيولوجي، وهو ما جعلهم أكثر حساسية إزاء المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وأكثر استعدادًا للاستجابة للعنف دون غيرهم، ومن هنا يتسم سلوكهم بالمثالية والخيالية ورفض الواقع والسعي إلى تغييره، وتشكل بعض مظاهر الأزمة التي نعيشها كغياب القدوة واهتزاز القيم والمعايير، والفراغ الفكري والثقافي، بالإضافة إلى حالة ضعف المسلمين في العالم، وسيطرة الغرب، واستخدامهم المطلق لمنطق القوة، تشكل هذه العوامل قوة دافعة لانخراط الشباب في العنف.
والطلبة شريحة أخرى من شرائح المجتمع القريب من مستنقع العنف بسبب ما يرونه من تناقض بين ما يدرسونه من عظمة هذا الدين وتاريخه المجيد، وبين الواقع المر الذي يعيشه المسلم في حياته اليومية في مختلف أنحاء المعمورة، مما يجعلهم يميلون إلى أنَّ العنف هو وحده كفيل بإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه، ويجهلون أنَّ هذا الدين إنما مُكِّن له بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى برفق وبعلم وعلى بصيرة، أمَّا العنف فنتائجه وخيمة، فهو سبيل إلى الدمار والخراب وسفك دماء الأبرياء بغير حق، وما حال بعض البلاد العربية التي مرَّت على هذا النموذج «تغيير الواقع بالعنف» إلَّا دليل واضح على ما ذكرنا. ولعلَّ السبب في ظاهرة العنف والتطرف جملة أمور، نذكر أهمها بشيء من التركيز، وهي:
- الجهل واتباع الهوى، وهما أصلان ملزمان لكل بدعة وما تفرع عنها، ومن هنا تظهر أهمية دور العلماء في تكوين النشء وتربيتهم وتعليمهم، لما في ذلك من دور كبير في تشكيل نفسية المسلم منذ أول طريقه، وإهمال أهل العلم لدورهم وبعدهم عن الناشئة يضطر الناشئة للتلقي عن غير مؤهلين أو مطالعة الكتب بغير منهجية، ودون توافر من يفسر لهم غوامض المسائل ويُبيِّن مبهمها، ويقيد مطلقها، إلى آخره.
- ضغوط الواقع، وجسامة الظلم الواقع على المسلمين من غيرهم، ومظاهر العصيان والخروج على الدين تجعل كثيرًا من الشباب يلجؤون للمقابل، وهو العنف.
- هضم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكثير من الشباب، بسبب الجهل المنتشر، والبؤس الذي يغذي الأحقاد، وكذا الفوارق الصارخة بين طبقات المجتمعات المسلمة.
- وجود تعميمات مُوهِمة في كتابات بعض المتقدمين من علماء المسلمين، مما يكون من المؤلفات موضوعًا أصلًا لمستوى متقدم من طلاب العلم، وقد سبق أن أشرنا إلى أنَّ القراءة غير المنهجية وغير المتدرجة لطالب العلم، تعرضه لشطط فكري ناتج عن غياب القواعد والأسس، فيذهب مع عموميات النصوص متفلتًا من ضوابطها الشرعية.
تلكم أهم العوامل والأسباب التي أدَّت إلى ظهور العنف بمختلف أشكاله من تطرف في الفكر وتكفير للمسلمين، واستحلال لدماء الأبرياء، وهي –على كلٍّ– ليست ذات وجود قوي ولا واسع في بلادنا إذا ما قيست بالتيار الغالب، بفضل الله تعالى ثم بفضل وجود مرجعية علميَّة موثوقة، وبفضل وجود حُكَّام يُحكِّمون العقل ويستعملون الشورى، ويرجعون إلى أهل العلم والاختصاص عند المدلهمات والصعائب.
وبما أنَّنا ذكرنا الأسباب المؤدية إلى ظاهرة العنف، ينبغي أن نختم هذا المقال بذكر بعض المعالم التي من شأنها أن تطوِّق هذه الظاهرة في مجتمعنا بشكل مركز ومختصر في النقاط التالية:
- إشاعة الحوار، وعقد لقاءات مستمرة بين العلماء والشباب، وكذا بين المسؤولين عن الشباب وبينهم أنفسهم، وهو لا ينمو إلَّا في جوٍّ من الشفافية، ويجب ألا نستعجل ثمار هذا الحوار، وليكن حوارًا صريحًا بَنَّاءً نقارع فيه الحجة بالحجة، وحتى إنَّ رفض أصحاب الفكر العنيف هذا الحوار، فلا غنى لنا عن اصطناعه، بمعنى أنْ نبحث عن أسس تفكيرهم ومحاولة نقضها إنقاذًا لكثير من الشباب من الوقوع في هذه المعتقدات الفاسدة، ولا شكَّ أنَّ هذا يحتاج إلى أن يُندب فريق من أهل العلم المختصين لهذه المهمة العظيمة، فهذا الصحابي الجليل ابن عباس رضي اللَّهُ عَنْهُ حاور الخوارج وقارعهم بالحجة –مع كونهم من أخطر الفِرق عُنفًا على المسلمين– فرجع منهم عدد كثير بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل هذا الحوار البَنَّاء.
- التربية على الرفق وإشاعته بين الناشئة علمًا وعملًا، وقد ذكرنا فيما سبق جملة من النصوص في هذا السياق، على أن تكون مسؤولية هذا العمل على الأسرة بالدرجة الأولى، ثم المدرسة في سياق تربية إسلامية شاملة.
- تحقيق العدل وإشاعته بين الناس، وهو مطلب عالٍ غالٍ لا يُنال بالتمني، وإنَّما منطلق تحقيقه الإرادة الصادقة وسبيله توحيد الجهود والعمل الدؤوب.
وأخيرًا فإنَّ العنف قد يكون في جهات يئست من كل أمل في تحقيق العدل والإحسان ومهمتنا إعادة هذا الأمل للنفس والعمل على تحقيقه.

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...