home-icon
الهدف من حياة المسلم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له».

هذا الحديث يبين لنا أهمية تحديد الهدف في حياة المسلم، وأنه لابد أن يكون هدفه الآخرة، وأن من جعل الآخرة همه كان الغنى حليفه وجمع الله له شمله أي ما تشتت من أمره، والدنيا تأتيه بدون تعب شديد، وأما من جعل الدنيا هدفه، فالفقر يكون حليفه، وفرق الله عليه ما اجتمع من أمره، ومع ذلك لا يحصل من متاع الدنيا إلا ما كتب الله سبحانه وتعالى له مهما تعب وراءها وسعى لها سعيها!! وقال تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 134].

هذه آية عظيمة في كتاب الله ﷻ حيث أخبر تعالى أن من كانت همته وإرادته دنية ولم تتجاوز ثواب الدنيا وأجرَها الضئيل، وليس له إرادة في ثواب الآخرة فإن نظره قاصر وسعيه خائب، ومع ذلك فإنه لا يحصل له من ثواب الدنيا إلا ما قدر الله ﷻ له، وليعلم الإنسان أن من طلب الآخرة فإن لله سبحانه وتعالى ملكوت السماوات والأرض وعنده ثواب الدنيا والآخرة، فيحصل للطالب ثواب الآخرة ولا يحرم كذلك ثواب الدنيا، فعلى المسلم أن يطلب خيري الدنيا والآخرة من الله ﷻ وليستعن بعبادته وطاعته عليهما، فإنه لا ينال ما عند الله ﷻ  من ثواب الدنيا والآخرة إلا بالاستعانة به والالتجاء إليه سبحانه وتعالى.

وتبين لنا من الآية والحديث أن للناس من حياتهم الدنيوية أهدافًا: فمنهم من يجعل همه الآخرة، فهو يعمل ويفكر ويسعى لنيل ثواب الآخرة فيحصل له ذلك ويحصل تبعًا ثواب الدنيا كذلك، لأن الله ﷻ هو مالك الملك يملك ثواب الدنيا وثواب الآخرة، ومنهم من يجعل همه الدنيا وما فيها من متاع قليل، فيعيش في هذه الحياة الدنيا بهمه وغمه وحزنه لا طمأنينة في القلب ولا سكينة في الفؤاد فهو من أفقر الناس مع ما عنده من ثروات الدنيا وزينتها، وأما الآخرة فلا خير له فيها. وقد أشار ربنا تعالى إلى ذلك في آي كثيرة، منها: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۞ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ۞ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ﴾ [البقرة: 200-202].

وقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۞ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15-16].

وقوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا ۞ وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا ۞ كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾ [الإسراء: 18-20].

وقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: 20].
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام أولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 200] وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: ﴿وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [البقرة: 201] فأنزل الله: ﴿أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ﴾ [البقرة: 202].

ولذا على المسلم أن يحرص على هذا الدعاء فإنه جمع كل خير في الدنيا، وصرف كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام.

فالمسلم مع حرصه على الدار الآخرة لا بأس أن يبتغي ما كتب الله له من الرزق من كسب حلال وصناعة شريفة وعمل طيب، ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ﴾ [القصص: 77] ولكن لا يُؤْثِر الحياة الدنيا، وليكن في باله أن الآخرة خير وأبقى، وأن من ابتغى الدنيا وزينتها فإنه يحصل له شيء من ذلك، وليس له في الآخرة من نصيب، وأما من ابتغى الآخرة وخاف مقام ربه فإنه يعينه في أعماله الدنيوية والأخروية ولا يحرم ثواب أي منهما. وليعلم أن الهدف إذا كان الآخرة فسيترتب على ذلك آثار حميدة وثمار طيبة، ومن ذلك: أغناه الله وأقناه، وجمع له ما تشتت من أمره، ومكنه من الدنيا فأتته راغمة، وبذلك حصل له خيرا الدنيا والآخرة، وذلك الفوز المبين.

وأما إذا كان الهدف الدنيا، فسيترتب على ذلك آثار سيئة وثمار مُرة، ومن ذلك: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه ما اجتمع من أمره، ومع كده وتعبه لا تأتيه الدنيا إلا ما كتب الله له منها، فذلك الذي خسرا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

والله أسأل أن يجعل الآخرة خيرًا لنا من الأولى، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، إنه سميع قريب.

وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.