home-icon
المشقة ومناسك الحج

إنَّ دعوة الله تعالى عباده لأداء نسك الحج وإقامة شعائره في أيام معلومات في أشرف بقاع الأرض تحمل بُعدًا عقديًّا ضاربًا في أعماق التاريخ، وترسل شعاع الإيمان من ذلك العهد عندما بدأ نبي الله إبراهيم عليه السلام في بناء بيت الله وإقامة قواعده مع ابنه إسماعيل عليه السلام إلى يوم القيامة ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[الحج: 27].

رغم ما يعتري ذلك من تعب ومشقة وخوف عبر الأسفار والتنقلات والغربة والبُعد عن الديار. فالحجُّ فرض على كل مسلم مستطيع في العمر مرة واحدة، لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97]. يفد الحاج لأداء مناسك الحج باذلًا جهده وماله، تاركًا أهله ودياره، متحملًا المشاق والتعب، مستجيبًا لنداء ربه ومولاه، طامعًا في رجائه، خائفًا من عذابه، وهو يردد بين المشاعر المقدسة نداء التوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك». وقد جعل النبي ﷺ الحج بمثابة الجهاد للمرأة، لما فيه من المشقة والجُهد والتعب، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور» (أخرجه البخاري).

حيث تبدأ مشقة أداء فريضة الحج بالنسبة للحاج من يوم خروجه من بيته في بلاده، إلى أن يعود إليه، ويمكن تقسيمها إلى عدة أقسام:

  1. مشقة الأسفار من بيته إلى المشاعر المقدسة وما يرافق ذلك من تعب بدني وخوف على المال والنفس في تلك الأسفار.
  2. مشقة التنقل بين المشاعر المقدسة مع تزاحم الناس والسيارات.
  3. مشقة أداء المناسك، من الوقوف بعرفة، والإفاضة إلى المزدلفة، ثم إلى منًى، ورمي الجمرات والنحر، والطواف والسعي بين الصفا والمروة وغيرها.
  4. مشقَّة التعامل مع الناس وتحمُّل أذاهم.
  5. مشقة الغربة عن الديار والجهل بالأماكن والعادات والأعراف.
  6. من أجل ذلك كان النبي ﷺ ييسر على الحجاج ولا يشق عليهم في أداء المناسك، ومن معالم التيسير:
    • جواز التقديم والتأخير في بعض الواجبات، قال أسامة بن شريك: خرجتُ مع النبي ﷺ حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيتُ قبل أن أطوف، أو قدَّمت شيئًا أو أخرَّتُ شيئًا، كان يقول ﷺ: «لا حرج لا حرج، إلا على رجل اقترض عِرْضَ رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِجَ وهَلَكَ» (أخرجه أبو داود).
    • كان ﷺ يأمر بالسكينة والهدوء في الحج، وينهى عن التدافع والإيذاء فيقول: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإنَّ البر ليس بالإيضاع» (أخرجه البخاري).
    • الله ﷻ فرض الحج في العمر مرة واحدة، تسهيلًا على الناس، فقد جاء أنَّ النبي ﷺ خطب في الناس فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا»، فقال رجل: أكلُّ عام يا رسول الله، فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلت نعم لوجبتْ، ولـما استطعتم» (أخرجه مسلم).
    • الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في المزدلفة.
    • جواز مغادرة المزدلفة قبل الفجر للضعفاء والمرضى، قالت عائشة رضي الله عنها: «نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبيَّ ﷺ سَوْدةُ أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها» (أخرجه البخاري).

إنَّ تعب أداء المناسك وعناء التنقلات بين المشاعر يذكرنا برحلة العناء والتعب الأُولى في تلك الأماكن المقدسة التي عاشتها هاجر عليها السلام، حين تركها إبراهيم عليه السلام مع رضيعها في ذلك الوادي القاحل دون طعام وشراب وأوكلهما إلى الله تعالى، متجاوزًا بذلك المألوف من طبع البشر في اتخاذ الأسباب وتأمين ما يجعلهم يستمرون في الحياة، وذلك بأمر من الله تعالى، حيث دعا الله تعالى بقوله: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[إبراهيم: 37].

ربي لقد أسكنتُ من ذريتي
فاجعل إلهي كل أفئدة الورى
بالوادِ في قلب الهجير الظامي
تهوي إليهم في رضًا وسلام

وفي نهاية هذه الرحلة الإيمانية، وبعد انقضاء أيام الحج، وبعد التعب والنصب من المناسك والأسفار يحقق الله تعالى لعباده الحجاج مجموعة من الأمور:

  1. إنَّ من ثمرات الحج بعد أن يُرهق الحاج نَصَب العبادة وتعب الأسفار، أنه يرجع إلى أهله ودياره بصفاء في عقيدته إذا أدَّى حجه على الوجه الشرعي، دون توسل لأحد أو اتخاذ وساطة لذلك، تحقيقًا لأمر الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا[الحج: 26].
  2. مغفرة الذنوب ودخول الجنة، لقول النبي ﷺ: «من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (أخرجه البخاري)، وقوله ﷺ: «تابعوا بين الحجِّ والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلَّا الجنة» (أخرجه الترمذي).
  3. تجديد الحياة، حيث إنَّ الحجَّ انطلاقة لحياة جديدة مليئة بأعمال الخير والصلاح، والطاعات والعبادات، وانطلاقة لهجر المعاصي والذنوب، والرجوع إلى الله تعالى بقلب صادق وعقل منير، لتكون الخطوات القادمة كلها لله سبحانه وتعالى.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.