
للمساجد مكانةٌ عظيمةٌ عند الله، فهي أحب البقاع إليه جل وعلا، وقد ربط الله تعالى بين بناء المساجد والإيمان به جل وعلا واليوم الآخر، وتزكية القائمين على ذلك والثناء عليهم، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].
وبالمقابل، توعد المانعين والصادين عن المساجد بالعذاب العظيم يوم القيامة، فقال: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 114].
لذا، كان أول عمل قام به النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة المنورة هو بناء المساجد.
وللمساجد والجوامع دورٌ كبيرٌ في حياة الأمة المسلمة في الجوانب المختلفة، من إقامة للصلاة وذكر لله ﷻ واجتماع المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى، ونهل العلوم والمعارف ونحوها.
ونشير في هذا المقام إلى مجال واحد من تلك المجالات، وهو ترسيخ القيم الأخلاقية لدى المسلمين وتحسين سلوكهم وتقويم ممارساتهم ومعاملاتهم فيما بينهم، في المعالم الآتية:
أولًا: المسجد هو المكان الذي تقام فيه الصلاة جماعة خمس مرات في اليوم والليلة، فيُقبل إليه العبد استجابة لنداء ربه سبحانه وتعالى إلى النجاة والفلاح، تاركًا وراءه الدنيا ومشاغلها، وهذه الحالة التعبدية المستمرة تزكي النفس وتمنعها من الوقوع في المعاصي، قال الله تعالى:﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
ثانيًا: إضافة إلى إقامة الصلوات، فإن المساجد والجوامع أمكنة لذكر الله تعالى، من قراءة القرآن والدعاء والاستغفار ونحوها، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ ۞ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَاةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ﴾ [النور: 36 – 37]، وللذكر أثرٌ كبيرٌ على أخلاق العبد وسلوكه، حيث يدخل إلى قلبه الطمأنينة والسكينة، ويبعد عنه شبح الخوف والقلق والحزن، لقوله ﷻ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
ثالثًا: تعد المساجد منهلًا من مناهل العلم والمعرفة، فقد كانت المساجد عند السلف بمثابة الجامعات في الوقت الحالي، بجميع التخصصات والمجالات، فلم تقتصر على العلوم الشرعية فحسب، وهذا الدور له أثر إيجابي كبير في تقويم حياة الناس وتنظيمها نحو الجد والاجتهاد والعمل، وهو سبب لنزول الرحمة والسداد على الناس، قال النبي ﷺ: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده». وكان النبي ﷺ يخصص للصحابة أوقاتًا في المسجد لتعليمهم أمور الدين، كما خصص أوقاتًا للنساء أيضًا، حيث قالت إحداهن: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن.
رابعًا: اجتماع أهل الحي باليوم خمس مرات في المسجد، واجتماع أهل مجموعة من الأحياء في الأسبوع مرة لصلاة الجمعة، يساعد في اكتساب الصفات المحمودة والأخلاق الرفيعة بعضهم من بعض، حيث يعم السلام والوئام بين الجميع، وتزول الضغائن والأحقاد بينهم، وهذا له أثر كبير على سلوكهم وأخلاقهم في خارج المسجد، وخصوصًا الصغار والناشئة الذين يحتاجون إلى رؤية نماذج حية من القيم والأخلاق والسلوك الحسن، لذا كانت هناك مجموعة من الآداب لدخول المساجد والمكوث فيها، كالسكينة وعدم رفع الصوت، وعدم اللعب أو الضحك ونحوها.
خامسًا: إن إمام المسجد يلتقي بأهل الحي في اليوم والليلة خمس مرات، ويختلط معهم، ويتفقد مشكلاتهم وأحوالهم، ويتجاوب معهم، وينصحهم ويرشدهم إلى سبل الخير، وإذا رأى منهم اعوجاجًا يقومه، وهذا كان ديدن النبي ﷺ مع صحابته رضوان الله عليهم، ومن أعظم ما يوجه فيه الإمام ما يتعلق بالأخلاق والقيم.
سادسًا: لخطبة الجمعة كل أسبوع دورٌ كبيرٌ في تعريف الناس بدينهم وتوعيتهم بواقعهم والمشكلات التي تحل بهم، وكيفية التعامل معها، من حيث الوقاية والعلاج، وحثهم على العبادات والطاعات، وتحذيرهم من المعاصي والمنكرات، وغير ذلك من التوجيه والإرشاد، مما له أثرٌ على محاسبة النفس بشكل دائم وبالتالي تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق.
سابعًا: للدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد والجوامع أثرٌ كبيرٌ في إحياء الأخلاق الحميدة، والقيم الفاضلة في نفوس الناس، وخصوصًا حين تكون من أهل العلم والدراية والاختصاص.
ثامنًا: للمسجد دورٌ في تعاون أهل الحي فيما بينهم، ومشاركة بعضهم بعضًا في الأفراح والأتراح، وتفقد أحوال الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم، وغيرها من الأعمال الصالحة، وقد كانت للمسجد رسالة كبيرة في هذا الباب في عهد النبي ﷺ ، مع أهل الصفة، في التصدق عليهم وإطعامهم وكسوتهم، وقد نزل فيهم القرآن الكريم، قال الله ﷻ: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
تاسعًا: في المسجد تتلاشى الفوارق الطبقية، بين الغني والفقير، وبين الأبيض والأسود، وبين الرئيس والمرؤوس، فالجميع سواسية، يقفون بين الله ﷻ جنبًا إلى جنب، وفي صف واحد، ويتوجهون إلى قبلة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد، مما يولد لدى كل المصلين شعورًا بأن المال والجاه والسلطان لا قيمة لها عند الله ﷻ، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم.
هكذا يبني المسجد الأخلاق، وينمي السلوك، ويشيع القيم الفاضلة، فما أعظم تشريع الله ﷻ لنا.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...