
هذه المقالة أرسلت إلى وزارة الشؤون الإسلامية بتاريخ (4/1/1427هـ).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد خلق الله سبحانه الخلق وجعل فيهم مُؤثرًا ومتأثرًا، وقويًّا وضعيفًا، وغالبًا ومغلوبًا، وطموحًا وغير طموح، ومتفوقًا ومتأخرًا، ومن سنته سبحانه وتعالى أن جعل الأدنى والأصغر يحاكي من هو أعلى وأكبر وأعلم، ينظر إلى فعله وعلمه ويفعل مثله أو يتشبه به.
ولكي يصل الناس إلى الغاية الأسمى في الآخرة، والرقي إلى معالي الأمور وأعاليها في الدنيا؛ أرسل الله تعالى رسلًا إلى الناس يرشدونهم إلى هذه الغايات الحميدة في عالم الدنيا والآخرة، ومن ثَمَّ يتمثلون هذا الطريق عمليًّا في سلوكهم وأعمالهم وتصرفاتهم، فكانوا مُثُلًا عُليا في ذلك كله.
من هنا جاءت هذه الكلمات والإشارات السريعة حول هذه الشخصية التي نطلق عليها مصطلح «القوة» أو «الأسوة»، ما الحاجة إليها؟ ومن القدوة الأعلى؟ وما عناصر القدوة ومجالاتها في الحياة؟ ثم من الداعية القدوة باعتبار مهمة الداعية من أسمى المهام؟! وما آثار القدوة الحسنة على النفس والمجتمع؟
الحاجة إلى القدوة:
القدوة من أهمِّ وسائل التربية والتعليم، درسًا ومحاضرةً وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، وقد جاء الأمر بها في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2]، وقوله سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، وهكذا جميع الرسل أمروا بالبلاغ بالكلمة الطيبة ووصف بلاغهم ومن تبعهم بأحسن الكلام، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
والناس بحاجة ماسة إلى من يتمثل الصورة القولية في واقعه العملي في صفاته وأخلاقه؛ حتى لا يتصوروا أن ما يدعون إليه غايات لا يمكن الوصول إليها، وقد جعل الله تعالى دينه تعاليم سهلة ميسورة وأرسل رسله بها قولًا وتمثلوها عملًا، فكانوا قدوة القدوات في التعليم والتربية.
القدوة الأعلى:
لما كان الأنبياء هم القدوات العليا للبشرية فإنَّ نبينا محمدًا ﷺ هو أفضل القدوات وأعلاها، وقد أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا للناس كافة، وشرفه سبحانه بكونه الأسوة الحسنة لكل من آمن بالله واليوم الآخر بقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. كما وصفه ربه تعالى بالخلق العظيم في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقالت عائشة رضي الله عنها تصف تمثله ﷺ لأعظم ما تكون عليه القدوة بقولها: «كان خلقه القرآن».
وكانت سيرته العلمية ﷺ واقعًا حيًّا لهذا كله في جهاده وكرمه وتواضعه وعفوه، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعفو عن كفار قريش وهو فاتح منتصر قد أمكنه الله تعالى منهم، ويكون في بيته في مهنة أهله، إلى غير ذلك من شمائله الشريفة ﷺ.
فكان –بأبي هو وأمي– قدوة القدوات وخير الناس ﷺ.
معالم القدوة:
يطمح كل ذي همة عالية وطموح رفيع إلى المعالي، وإلى أن يكون قدوة مؤثرة في الناس، وهو مطلب نفيس، لكنه لا يتأتى إلا لمن قام بحقه، وبدت فيه معالمه، ومنها:
- أولًا: قوة الصلة بالله جل وعلا، وقوة اليقين والثقة به سبحانه، ومن كان هذا شأنه هان عليه كل ما سواه سبحانه من أمور الدنيا في سبيل مرضاته تعالى. بل إنَّ هذا هو جزاء المولى لمن قويت به ثقته وعظم عليه توكله، كما أوصى النبي ﷺ ابن عباس رضي الله عنهما بوصية جامعة: «احفظ الله يحفظك»، وها هو ﷺ باطمئنانه العجيب في الغار يقول لأبي بكر: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»، ثم يَعِدُ ﷺ سراقة بعد ذلك –وهو ما زال مهاجرًا يبحث عن النصرة– بسواري كسرى.
- ثانيًا: التحلي بالأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم، مصداقًا لقول النبي ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، وأمره ﷺ لمعاذ وأبي ذر وكل مسلم: «خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». ومن أهمِّ الأخلاق، بل على رأسها: الإخلاص لله تعالى في كل الأقوال والأعمال والأحوال، فهو سبب الرضا والقبول من المولى جل وعلا، ولا قيمة لعمل بدونه، وكذلك الصدق، فإنه كما قال ﷺ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»، وقد شهد العدو والمحب للنبي ﷺ بهذه الصفة العظيمة حيث كان خير من تمثلها. ومن الصفات المهمة كذلك: الصبر؛ فبه تُنال الإمامة في الدين، وتتحقق القدوة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
- ثالثًا: العلم الشرعي: وهو من أهمِّ معالم القدوة وزادها في تربية الناس وبث الخير فيهم، وأنى لمن تصدى للناس وكان في محل القدوة أن يؤثر فيهم بلا علم شرعي يهديه ويرشده في هداية الناس وإرشادهم؟! بل إنَّ نبينا الذي هو أعلى القدوات لم يؤمر بطلب مزيد إلا في العلم، فقال له ربه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].
- رابعًا: موافقة القول للعمل: فبخلاف ذلك تنهار القدوة وينعدم التأثير، كما أنَّ وجود القدوة العملية المطابقة للقول قد يكون تأثيره أحيانًا أقوى من القول نفسه، بل قد يحقق الآثار العظيمة بدون القول.
أهمية القدوة في الدعوة:
مما سبق يتبيَّن بوضوح أثر القدوة وأهميتها البالغة في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أنَّ تعليم الناس وإرشادهم من أفضل الأعمال وأزكاها، فوجب على كل من تحمل مسؤولية في هذا الميدان العظيم أن يحقق ما يريد بثه في الناس واقعًا حيًّا، فهو كالثوب الأبيض تظهر فيه أدنى نقطة سوداء.
كما يجب على الداعية أن يبين مقاصده للناس سهلة جلية، فيبتعد عن الغموض والتعقيد، ويخاطب الناس على قدر عقولهم، ويراعي أفهامهم ومنازلهم وتفاوتهم.
وعليه أن يقوِّي صلته بمولاه جل وعلا الذي يدعو الناس إلى طاعته ومرضاته، فيحافظ على عبادته في أوقاتها وبصفاتها؛ فإنَّ الناس يقتدون به ويتأثرون.
وفي مجتمعه ينبغي أن يكون من أفضل الناس قيامًا بأماناتهم، وصدقًا في عهودهم، في عمله ومعاملاته.
ومن أهم ما يؤثر في الناس: جعل الداعية همه الآخرة وإيثارها على الدنيا وحظوظ النفس وأهوائها.
ومما ينبغي كذلك للداعية المحافظة عليه الظهور بمظهر حسن نظيف؛ ليتوافق ذلك مع نظافة الباطن.
وليحذر الداعية كل الحذر مما يخدش إيمانه أو عبادته أو مروءته؛ فإن أثره يتعدى إلى غيره، والمسؤولية في حقه أكبر من غيره من الناس.
وقفة أخيرة:
ولأهمية القدوة وعِظَم أثرها في كل وقت وحين، الحاجة إليها أشد في هذا الوقت الذي تعددت فيه المشارب والطرائق في الحياة، وتنوعت فيه الاهتمامات، وكثرت فيه مصادر التلقي.
فهذه كلها تحتم على المربين من آباء وأمهات، ومعلمين ودعاة، أن يكونوا على مستوى القدوة في المظهر والمخبر، في القول والعمل، في الكلام والتصرفات، في البيت والشارع والمدرسة.
فمن المهم استشعار هذا المبدأ العظيم والوعي به بعمق، وتمثله في الواقع بجد؛ فالمسؤولية مضاعفة، والأمانة كبيرة. أسأل المولى جل وعلا أن يتقبل هذه الكلمات والإشارات، وأن يوفق الدعاة والعاملين لدينه، وأن يعفو سبحانه وتعالى عن الزلل، ويتقبل صالح العمل.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...