home-icon
العشر الأواخر وصناعة التغيير

الحمد لله الذي أوجدنا من العدم، وأنعم علينا بأنواع النِّعم، وأصلِّي وأسلم على الهادي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم الأكمل والأسلم، أما بعد:

فقد فرح المسلمون بقدوم شهر رمضان المبارك، وحق لهم الفرح بذلك لما خصَّه الله جل وعلا من الفضائل والمزايا، قال تعالى:
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا۟ هُوَ خَيْرٌۭ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

واليوم يستقبل المسلمون عشره الأواخر، والتي كان يخصها ﷺ بخصائص تختلف عما قبلها اجتهادًا في أنواع خاصة من الطاعات والقربات، قال تعالى:
﴿وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

وبإلقاء نظرة تأملية لما كان يعمله ﷺ في هذه العشر فيما روته عائشة رضي الله عنها عنه ﷺ، نجد أنها تكمن في دورة تدريبية مكثفة تتمتع بمقررات عالية الجودة، متنوعة الأداء، تنتج منتجًا جديدًا يتغير معه المتدرب إلى الوصول إلى نواحي الكمال.

كم يبذل أصحاب الطموح من أوقات وجهود وأموال ليرتقوا في مصاعد الرقي والتقدم في مجالاتهم وتخصصاتهم، لمحاولة الوصول إلى الإبداع والتميز، وبلا شك هذا مطلب محمود، وعمل جاد حثَّ عليه الإسلام، وشجع عليه، وندب إلى تحصيله، يتلخص ذلك في مثل قوله ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».

وكم يفرح الإنسان بحصوله على درجة عليا مادية في هذه الدنيا! وكم يأسى على فوات فرصة كان ينبغي أن يستفيد منها، وينافس الآخرين بها! وحياة الناس شاهد على ذلك. ولذا شجَّع الإسلام كل عمل يوصل إلى الرقي المحمود، ووضع لذلك الأساليب المشروعة، والضوابط الدقيقة، حتى يكون رُقِيُّه نافعًا له ولمجتمعه ولوطنه، بل ولأمته، فيصيب لبنة صالحة تكون له آثارها الإيجابية في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].

ونحن –أحبتي القراء– نتهيأ جميعًا –نحن المسلمين والمسلمات– للولوج إلى أعظم دورة إيجابية، قصيرة المدة، عظيمة الآثار، مضمونة النتائج، وضع النبي ﷺ معالمها فيما روته عائشة رضي الله عنها. ومن الخير العظيم أن نستعين بالله تعالى، مستمدين العون والتوفيق منه، لنقتفي أثره ﷺ، في التعامل مع هذه الدورة الإيمانية العظيمة، من خلال هذه المعالم:

الأول: كان يجتهد ﷺ في هذه العشر أكثر من غيرها، والاجتهاد وبذل الجهد بقدر الوسع والطاقة، ومعنى هذا أن الإنسان يبذل ما يستطيع من الأعمال البدنية والمالية في هذه العشر أكثر مما كان يعمله في حياته العادية، قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَٰتِ﴾ [البقرة: 148] وقال أيضًا: ﴿وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرًّۭا وَعَلَانِيَةًۭ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 274].

وعلى سبيل المثال، يزيد من نوافل الصلاة، وقراءة القرآن، والأذكار، والصدقات، والإحسان، والتأمل والتفكر في الكون بما فيه من مخلوقات، والدعاء، وتقويم النفس ومحاسبتها، وغيرها

الثاني: تقول رضي الله عنها: «إذا دخلت العشر أحيا ليله»، وهذا تعبير دقيق ورائع، “أحيا” من الحياة، وإحياؤه هنا بالقيام وبسائر الطاعات كما سبق، فلا نميتها بالنوم أو بالسهرات، وبخاصة السهرات المكروهة أو المحرمة.

إنَّ المسألة تحتاج إلى شيء من العزم والإرادة، وأن نكسر الحاجز الوهمي الذي يطغى علينا في “روتين حياتنا اليومية” فلا نستطيع تغييره. إنها دعوة إلى الحياة التي تورث حياة سعيدة أبدية، قال تعالى:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱسْتَجِيبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].

الثالث: تقول رضي الله عنها: «شد مئزره»، كناية عن بلوغ الاجتهاد غايته حتى في البُعد عن المباحات، ومنها إتيان أهله في هذه الليالي المباركة رغم إباحة ذلك، فهو مشغول بالتزود والإكثار مما ذكر من الأعمال.
وهذا يعني بالنسبة لنا: أن نتخفف من أعمالنا الدنيوية –أسرية وخاصة وتجارية وعلاقات– وأن نقتصر على الضروري منها، فما هي إلا أيام معدودة تنقضي بما حصَّلتَ فيها، قال تعالى:
﴿وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ﴾ [البقرة: 197]، وقال أيضًا: ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌۭ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا﴾ [الإنسان: 29].

الرابع: تقول رضي الله عنها: «وأيقظ أهله»، فالمسألة منافسة، والقضية ليست سهلة، فلم تكن هذه العشر كما سبق من العشرين والتي يختلط فيها القيام والنوم، لكن العشر تختلف، تحتاج لنشاط خاص، وليس نشاطًا فرديًّا، بل نشاط أسريٌّ يتعاون فيه أفراد الأسرة، لئلا يفوتهم الخير العظيم فيسبقهم غيرهم.

إنَّ المؤسف أنَّ الناس في هذه الأزمنة مستيقظون ولكنهم عن الطاعات والقربات مشغولون، وقد يكون هذا الشغل في غير المفيد.

فهل نعي ما تنتجه هذه العشر لنا؟ فنربي أسرنا ونشعرهم بقيمتها وعظمتها؟

قال تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًۭا﴾ [التحريم: 6]،

وقال أيضًا: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].

ومما يساعد على ذلك:

  • إظهار الاهتمام من قبل الأبوين بهذه العشر.

  • إعادة النظر في ترتيب جدول البيت، وخصوصًا ما يتعلق بالمشتريات والزيارات.

  • إقامة جلسة قبيل العشر ببيان أهميتها وعظم شأنها.

  • المبادرة من الأبوين أو الإخوة والأخوات بالتطبيق والجدية في ذلك.

  • وضع الحوافز لمن يقوم بعمل من الأعمال المهمة كالقيام، أو قراءة القرآن الكريم ونحو ذلك.

  • الدعاء بأن يوفق الله جل وعلا أهل البيت كلهم للعمل بهذا الهدي المبارك، قال تعالى: ﴿رَبِّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾ [إبراهيم: 40].

الخامس: الاعتكاف، وهو ما لزمه النبي ﷺ في العشر الأواخر من رمضان، ويقصد به ملازمة المسجد للتفرغ لعبادة الله تعالى وطاعته، والبعد عن مشاغل الدنيا وتأجيلها.
وفي هذا الاعتكاف من الآثار العجيبة على النفس في تصفيتها وتطهيرها ونقائها ما لا يخطر على بال.
فإذا أضفت إلى ذلك ما يجنيه المعتكف من رجاء ليلة القدر، وختام رمضان بأعظم ختام، كان حريًّا أن يبادر إليه كل مسلم.

قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌۭ حَسَنَةٌۭ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْءَاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًۭا﴾ [الأحزاب: 21].

وأما بالنسبة للمرأة، فتأخذ نصيبها في التفرغ من المشاغل المنزلية، والأسواق، والزيارات، لتلازم بيتها فتكثر من الطاعات، لينعكس هذا العمل على الأسرة بكاملها.
فما أعظم هذا الدين الذي تُطَهَّر فيه قلوب الأسرة من أدرانها، فتصبح بيضاء تستقبل عامًا آخر ترجو التقديم فيه نحو الخالق سبحانه.

قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ﴾ [الأعلى: 14-15].

وبعد أحبتي القراء:

أرأيتم كيف تصنع العشر الأواخر بالفرد فتغير حاله إلى الأفضل والأكمل؟
وكيف تصنع بالأسرة فتصفي ما ران عليها من الأكدار؟
جدير بنا ونحن نستقبل العشر أن نلج في دورتها المكثفة، بعد عقد العزم والتصميم نحو التغيير الإيجابي في حياتنا، لتثمر سعادة الدارين لنا ولأسرنا ولمجتمعنا ولأمتنا.
حقق الله الآمال، وسدَّد الخطى، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.