
من المُقرر في دين الله ﷻ أنَّ السُّنة النبوية مصدر أساسي من مصادر التشريع الإسلامي؛ فهي والقرآن الكريم صنوان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وقد تضافرت الأدلة من القرآن الكريم على ذلك بصيغ مختلفة، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وهذا أمر صريح لا يقبل الجدل في وجوب تنفيذ أمر الرسول ﷺ والوقوف عند نهيه، وقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: 92]، وقد تكرر الأمر بطاعة الرسول ﷺ وقُرن بطاعة الله ﷻ، وفي صيغة أخرى يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24] وفي صيغة أخرى يأمر الله تعالى برد التنازع إليه وإليه فقال ﷻ: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].
وبناءً على هذه الأدلة وغيرها أجمع أهل العلم -كما حكاه الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة، وابن حزم في الأحكام، والشوكاني في إرشاد الفحول وغيرهم- على وجوب العمل بالسُّنة النبوية في جميع شؤون الحياة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية وجنايات ومقاضاة وغيرها، والحذر من مخالفتها. هذا أصل مُقرر يجب على المسلم اعتقاده والعمل به وعدم الحيدة عنه أو التحايل عليه، ويجب الحذر من مخالفته وأن يتربى المسلم على ذلك ويمارسه بكل استسلام وطمأنينة وراحة، ويحتسب الأجر في ذلك كله عند الله سبحانه وتعالى قال ﷻ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]. والحجُّ من أعظم العبادات، بل هو الركن الخامس من أركان الإسلام، رتَّب الله سبحانه وتعالى من الفضائل له ما يجعل النفوس تشرئب إليه وتتمنى أن تحج كل عام؛ لما فيه من الخير العظيم في الدنيا والآخرة لمن تقبله الله سبحانه وتعالى. ومن هنا ندرك أنَّ من أهمِّ عوامل القبول اقتفاء السُّنة في الحج، والحرص على ذلك، وكلنا يعلم أن أسس القبول عند الله تعالى بعد إيمان العبد تجريد العمل لله تعالى وتوجيهه له جل وعلا، واتباع النبي ﷺ، فهو القدوة والأسوة والمبلِّغ عن الله جل وعلا، وهو الصورة العملية لتطبيق الإسلام. وجاء تأكيد الحج وفق السُّنة بعد التأكيد المذكور آنفًا من عدة زوايا، من أهمها:
الأولى: تأكيد النبي ﷺ في حجة الوداع بعد كل منسك: «خذوا عني مناسككم»، وعندما يكون الأمر أوسع يأتي البيان كما قال ﷺ: «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف»، «ارفعوا عن بطن عرفة».
الثانية: حرص الصحابة رضوان الله عليهم على تتبع حجة النبي ﷺ مما يغرس في نفس الحاج هذا الحرص ليكمل الاقتداء.
الثالثة: كثرة النصوص الواردة في فضل الحج وما يترتب عليه من الثواب في الدنيا والآخرة يزرع في النفس الحرص على الوصول إلى هذا الثواب العظيم الذي لا يتم إلا بالاقتداء والتأسي بالحبيب ﷺ. ويبقي سؤال في غاية الأهمية: ما المراد بمفهوم العمل بالسُّنة في الحج؟
وأقول هذا السؤال مهم جدًّا؛ لأن كثيرين يفهمون أنَّ العمل بالسُّنة هو في حَرفية الاقتداء، حتى لو ترتب عليه أضرار على الحج نفسه أو على الآخرين وأُمثِّل لذلك بتقبيل الحجر الأسود، فهو سنة، فإذا أراد الحاج العمل بهذه السُّنة حتى ولو زاحم الآخرين وأضر بنفسه وبهم فهذا خروج عن العمل بالسُّنة. ومن هنا أقول: إنَّ العمل بالسُّنة هو في الاقتداء بالنبي ﷺ في حجته، ومن المفيد أن أبين أمورًا لها علاقة بالعمل بالسُّنة هنا:
- أنَّ كل ما كان داخلًا ضمن العمل بالدليل الشرعي فهو من السُّنة إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبحسب المثال السابق فإن من راعى الزحام وترك تقبيل الحجر الأسود وأشار إليه يعد عمله من السُّنة؛ لأنَّ هذا العمل مبنيٌّ على الدليل الشرعي.
- مراعاة الأفضل، إذا كان العمل بالأفضل مستطاعًا فهو في دائرة العلو من السُّنة، ولا يقدح في غيره إذا كان عمله وفق الدليل الشرعي، فقد يكون العمل فاضلًا في حق شخص ومفضولًا في حق آخر.
- الحجُّ عبادة جماعية فردية، فالفرد غير منفك عن جماعة الحجاج، ومن هنا كثرت الرخص في الحج، والله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، كما جاء ذلك في الأثر، فإذا كان كذلك فالعمل بالرخصة لا يخرجها من دائرة العمل بالسُّنة كما يتبادر إلى أذهان بعض الحجاج، وذلك مثل: النفرة من مزدلفة آخر الليل، رخصة من الرخص لمن احتاج إلى ذلك، فعمل المحتاج لها كبعض الحملات، والمجموعات، لا يخرجها من دائرة العمل بالسُّنة.
ومن هنا وجب علينا أن نفقه السُّنة في الحج حتى نكسب الأجر، ولا نحيد عن السُّنة، ولا نحمل ما لا نطيق، ولا نضر بالآخرين بناءً على مفهوم العمل بالسُّنة.
من الأدوات المعنية على العمل بالسُّنة:
- التفقه بالحج قبل الحج.
- استشعار عظمة هذه الشعيرة العظيمة.
- القراءة والاطلاع في الحج، والسؤال عما يشكل.
- النية الصادقة في أداء هذا الحج.
- فهم مقاصد الحج في النفس والمجتمع.
- الموازنة بين الأعمال في الحج وبخاصة من يخدمون الحجاج من أصحاب الحملات والطوافات وغيرهم.
- صحبة الحجاج المهتمين بالعمل بالسُّنة.
- الدعاء، واللجوء إلى الله تعالى بأن يفقهه في الحج ويؤديه على الوجه المشروع.
ولعلي أختم ونحن نتحدث عن السُّنة في الحج بأن أذكر جملة أمور تخدش العمل بالسُّنة في الحج، ومنها:
- التقصد لعمل المحظورات، وبالذات المحظورات المعنوية مثل المعاصي والجدال، والغيبة والنميمة والكذب، وغيرها، ناهيك عن غيرها، كالجماع ودواعيه.
- الاستهتار النفسي في شعائر الحج؛ فهذا يحبط العمل.
- الشدُّ على النفس في منعها من أخذ الرخص مع الحاجة إليها.
- التفريط في الواجبات كالصلاة.
- التغليظ على الآخرين، والقدح في أعمالهم.
- اتباع الرخص والأخف دائمًا.
- ضياع الأوقات المفيدة.
- التفريط في حقوق الآخرين.
- السير في الحج على جهل ودون سؤال.
وبعد: فأسأل الله تعالى أن يعين الجميع على أداء الحج وفق السُّنة، وأن ييسره لهم، وأن يتقبل منهم حجهم ودعاءهم وإنفاقهم وحرصهم، وأن يجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، إنه سميع قريب.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...