home-icon
الحلقة الفارغة

من سمات هذا العصر الانفجار الإعلامي، وسرعة التواصل والتسابق في ذلك على قدم وساق بين الفضائيات الإخبارية، والإنترنت بجميع برامجه، ووسائله، والصحافة المقروءة بأشكالها المتنوعة، ووسائل الاتصال بقديمها وجديدها، كل ذلك أسهم في إيجاد مساحة كبيرة قد لا نكون مستوعبين لها، أو ملاحظين لجديدها، وهذه بلا شك أفرزت إنتاجًا ناضجًا وغير ناضج وولدت سمينًا وهزيلًا، ومفيدًا وغير مفيد، وأعتقد أنه آن الأوان للنظر والمراجعة بعين من التبصر والتأمل، وعدم الركض واللهاث الذي يفقد جمال المنتج، وفائدته، وإيجابيته، لننتقل من عالم السرعة في الجري وراء كل جديد أو خلف كل نقد أو اتباع كل مطروح إلى تجويد المنتج، وإبراز إيجابياته وسلبياته في برامج عملية هادفة للوطن والأمة.

ولعلِّي ألمح هنا إلى نوع من المفارقة وجدته بالتأمل في هذا العصر المسمى عند بعضهم: عصر السرعة، هذه المفارقة تكمن بوضوح فيما أسميه الحلقة الفارغة.

تأمّل معي في كثير من جوانب حياتنا الرسمية والمؤسسية، والإعلامية، بل والفردية ولأضرب بعض الأمثلة، ومن ذلكم عندما نناقش قضية اجتماعية تهم شأننا الاجتماعي، نتبارى في: أينا يجيد الأخطاء، والعزف عليها حتى بالأساليب الساخرة، بل قد يكون في بعضها قضايا شرعية قد حكم الشرع حكمه فيها، فنجد من يحاول أن يبرز أن موقفه هو الموقف الشرعي. وعندما نتحدث عن قضايا التعليم مثلًا، نجد أدوات النفي المتوالية، لم ننتج ومناهجنا ضعيفة، وإنتاجنا الحقيقي معدوم، إلخ، وعندما يكون الحديث عن عاداتنا وتقاليدنا: نجد كمًّا من ألفاظ الاستهجان والسخرية، وكأننا نخرج (للتو) من عالم غريب إلى عالم آخر يحتاج منا إلى جهود وجهود لإصلاحه جذريًّا. وقل مثل ذلك عندما يكون الطرح لقضية حضارية أو فكرية: كم ننعى أنفسنا بعدم لحاقنا بغيرنا، وكأنه ليس لنا حضارة تُذكر شيدت عمارة الكون قرونًا.

وقريب من ذلك عندما يكون الحوار حول منجز من المنجزات يرصد له «المليارات»، ثم نبحث عن تحقيق للأهداف المرجوة فلا نجد قلمًا يبعث على التفاؤل، ويرصد المنجز لينطلق الجميع إلى تطويره.

وحدِّثْ ولا حرج عندما تحدث مشكلة كبيرة أو صغيرة في المجتمع كمشكلات الإرهاب، والمخدرات، والبطالة، والفقر ونحوها، وهي مشكلات جذرية وعميقة تتطلب دراسة أو دراسات متأنية، وعلاجات سريعة وهادئة، هنا تقرأ وتسمع كثيرًا من النفي القاطع بعدم معالجة المشكلة ، أو التعدي على مبادئ ومقامات، أو النوح على أساليبنا والعالم سبق وفعل وترك.

وأذكر هنا أنني استمعت مرة إلى من يتحدث عن معالجة بعض الدول لمشكلة الإرهاب الفكرية فأخذ يبجل تلك الجهود العظيمة في نظره وينوح على مجتمعنا بأنه حتى الاستفادة من تلك التجارب لا يعرفها، ويسخر مما يسمعه من المعالجة الفكرية والحوارية للإرهاب.

فحاولت على شيء من الاستحياء حتى لا ينالني نصيب من النفي الشديد أن أذكر بعض الجهود التي هي محل تقدير كثير من المفكرين، أبدى تعجبه وغرابته ووضع باللائمة على عدم تفعيل ذلك إعلاميًّا، والحق هو الحلقة المفرغة لديه وأمثاله.

ووقفة أخرى من جهة أخرى عندما نسمع بإصغاء إلى ندوة في فضائية قد تستغرق ساعة أو أكثر، أو تقرأ في الصحف عن مشكلة لا تسمع أو تقرأ 10% أو 20% من الإيجابيات لكي يُبنى عليها ما يمكن البناء عليه إيجابيًّا، وينصف ما يمكن إنصافه.

ولمست هذا كثيرًا في وسائلنا التربوية مع أبنائنا وبناتنا، وتوجيهنا لأبناء مجتمعنا، في النظرية نعطى المثالية، ونطلبها، وفي الواقع نجد مسافة كبيرة لأجل أن نصل إلى تلك المثالية؛ فأولادنا لهم عالم عريض من التقنية ونحوها لا ندركه ولا نستطيع التعامل معه ومع ذلك نريد تلك المثالية.

إنها الحلقة الفارغة.

أزعم أننا بحاجة إلى معرفة تلك الحلقة وإدراكها في جميع مجالاتنا لكي ندرك إيجابيات أعمالنا ومؤسساتها ونستبصر سلبياتنا بوضوح ونبني مناهج حياتنا القادمة على هذا المنهج.

إنَّ إدراك هذه الحلقة يقلل من الفجوة الكبيرة بين النظرية والتطبيق بين الواقع والمأمول، بل بين الصواب وغيره.

كما أزعم أن من أهمِّ أسباب وجود تلك الفجوة قفزات وسائل الاتصال، والانفتاح العالمي غير المدروس، وضعف التأهيل لمبادئنا وقيمنا، وإدراك موقعنا من العالم، وكيفية الاستفادة من معطياته، واستغلال نقاط القوة لديه، والثغرات الحقيقية، وبناء منهجنا على ذلك.

إنَّ الأمل في أصحاب الفكر والقلم، والقيادة والريادة أن يبسطوا مثل هذه الفجوات ويبرزوا النقاط الإيجابية لدينا، وعوامل الريادة في مبادئنا، والشفافية في نقاط الضعف ومعالجتها بوضوح وبعدم توتر أو قلق أو نفي للمنجز، أو استصغار لما تحقق حتى يقع القول موقعه، وتسهم الكلمة في اكتمال البناء. سدد الله الخطى.