
إنَّ من رحمة الله ﷻ بعباده بعد أن خلقهم وجعل لهم الأرض ذلولًا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه ﷻ، أنه تعالى لم يتركهم في الحياة تائهين، يتخبطون في ظلمات الجهل، ومستنقعات الخرافات والأوهام، فأرسل إليهم رسلًا يهدون بأمر الله، ويدعون إلى صراطه المستقيم، ومنهاجه القويم، حتى لا يكون لهم حجة على الله تعالى: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، ويقول جل ذكره: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].
وقد أمر الله تعالى عباده بأداء فرائضه في كتابه الكريم، وجاء هذا الأمر عامًّا من غير تفصيل في الكيفية والأداء، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، فلم يبيِّن الله تعالى كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها، فكذلك جاء الأمر بالحج عامًّا دون الدخول في التفاصيل والفروع، وإن تطرقت بعض آيات القرآن إلى بعض المناسك، ولكنها تبقى إشارات وملامح، من أجل ذلك كان من مهام الرسول ﷺ بيان هذه الفرائض للمؤمنين وكيفية أدائها، يقول الله تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44].
فالرسول الكريم ﷺ هو المرجع الوحيد الذي ترجع إليه الأمة لأداء مناسك الحج والعمرة وجميع أمور التشريع، لأنه المصدر الوحيد الذي يأتيه الوحي من رب العالمين، فليس معه رسول آخر يعلِّم الناس، وليس إله آخر يأتيه الأمر من عنده فتتباين الأوامر وتختلف، وتضطرب الأمور وتتناقض، وهذا دليل على توحيد الخالق ﷻ، ودليل على صدق نبوة الرسول ﷺ، الذي لم يأتِ بشيء من عنده، وإنما يوحى إليه من رب العالمين، ويبلِّغ ما يوحى إليه، يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۞ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 52، 53].
ويقول جل شأنه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ۞ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ۞ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ۞ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم: 1-4].
فمن أجل ذلك قال النبي ﷺ للصحابة في حجته: «خذوا عني مناسككم». على غرار ما قال عليه الصلاة والسلام في شأن الصلاة: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي». والرسول ﷺ هو قدوة المؤمنين في الحج وغير الحج، يسيرون على سنته ويهتدون بهداه، يقول الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
والمؤمنون مطالبون بطاعة الرسول ﷺ لأن طاعته من طاعة الله تعالى، ومن يعرض عنه فإنما يعرض عن الله، يقول الباري ﷻ: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].
ويقول جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
ففي الآيات الكريمة دلالة واضحة على أن مصدر التلقي هو الرسول الكريم ﷺ، وأنه لا مجال للجدال حول كيفية أداء الحج بعد هذه الأدلة القاطعة، فلا سبيل إلا السُّنة النبوية المطهرة في أفعال النبي ﷺ، وأقواله في أثناء أدائه نسك الحج، وهذا ما اجتمعت عليه الأمة منذ أن فرض هذا النسك إلى الوقت الحاضر، وسيبقى ما دامت السموات والأرض، وفي ذلك أكبر دليل وأوضح برهان على وحدانية هذا الخالق وانفراده بالتشريع لخلقه.
وكانت حجة النبي ﷺ درسًا علميًّا للصحابة من حوله في ذلك الوقت، والأمة الإسلامية بعد ذلك إلى قيام الساعة، وكأن لسان حاله يقول: هذه هي الفريضة الأخيرة التي وجبت عليكم، تعلَّموها مني وعلِّموها الأمة من بعدي، فإنكم لن تجدوني في العام المقبل، وهذه هي نهاية المهمة التي وُكلت بها من رب العالمين، فيُلحَظ هذا التلقين واضحًا للصحابة في حجته ﷺ، ففي حديث جابر بن عبد الله الذي يروي في حجة النبي ﷺ: لما دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، «أبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم إنه ﷺ الرؤوف بالمؤمنين والرحيم بهم، يعرف متاعب الحج وأعباءه، وتنقلات الحجيج وأسفارهم، وازدحامهم في المشاعر المقدسة وفي بيت الله الحرام، وتباين لغاتهم وعادتهم وألوانهم، وكذلك يعرف أن فيهم الضعفاء من المرضى وكبار السن والنساء وغيرهم، من أجل ذلك كله كان ميسرًا للأمة أداء هذا المنسك العظيم، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله ﷺ وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال: «ارم ولا حرج»، وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: «ارم ولا حرج»، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: «ارم ولا حرج»، قال: فما رأيته سُئل يومئذ عن شيء إلا قال: «افعلوا ولا حرج». وقال أسامة بن شريك: خرجت مع النبي ﷺ حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف، أو قدَّمت شيئًا أو أخرت شيئًا؟ فكان يقول: «لا حرج لا حرج، إلا على رجل اقترض عِرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك».
وكان يقول ﷺ: «السكينة السكينة».
يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]. وفي هذا الدرس العملي الذي يقوم به المسلم وهو يؤدي حجَّه، يدرك تمامًا أنه ﷺ القدوة في كل الأمور في الحج وفي غير الحج، فيقوِّم المسلم سلوكه بناء على هذا الأصل العظيم، منطلقًا من وحدة المصدر للتشريع في حياته كلها، فلا عمل صحيحًا إلا ما شرعه الله تعالى أو بيَّنه رسوله ﷺ ، فلا العقل وحده يشرع، ولا الهوى والمزاج يشرع، ولا الرغبات والآراء الشخصية تشرع، فالمشرع هو الله وحده لا شريك له، وهكذا يعمل المسلم في حياته كلها باستجابة كاملة وباستسلام كامل لله سبحانه، وبطيب نفس وانشراح صدر، وعدم اعتراض أو تأفف، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
فهل يعي الحاج ذلك وهو يؤدي مناسك حجه؟ إن من يدرك ذلك ويعيه هو المستفيد من الحج حقًّا، والموحد صدقًا.
وبناء على توحيد مصدر التلقي في الحج يعي المسلم هذا الدرس العظيم ليوحد مصدر التلقي في:
- عقيدته، فلا معبود بحق إلا الله تعالى، وله الأمر والنهي وإليه يرجع الأمر كله.
- عبادته، فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يدعو ولا يتجه ولا يرجو ولا يعمل صالحًا إلَّا لله تعالى من دون أن يُدخل العبد أحدًا غيره سبحانه.
- أخلاقه، فتنبعث أخلاقه وسلوكه وتصرفاته من وحي الله تعالى المتمثل في خلق النبي ﷺ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
- معاملاته للناس، فيعاملهم كما كان يفعل النبي ﷺ.
- تشريعه، فيقبل شرع الله تعالى بكل انقياد واستسلام دون تأفف أو تضجر، ولو كان حكم الله عليه وضده في نفسه وأسرته، فيقوم عليهما كما أمر الله ﷺ، ولو خالف رغباتهم وشهواتهم.
- في دعوته للآخرين، فيدعوهم مقتفيًا منهاج النبي ﷺ في دعوته وهكذا في كل شؤون حياته.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...