home-icon
الحج بين فردية الأداء وعالمية الأثر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنَّ الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وأحد مبانيه العظام، فرضه الله جل وعلا على من استطاع من عباده، فقال سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97]. وجاءت السُّنة المطهرة ببيان هذا الركن في نصوص كثيرة، منها: حديث عمر رضي الله عنه الذي جاء فيه جبريل عليه السلام لنبينا محمد ﷺ وهو جالس مع أصحابه ببيان أركان الإسلام والإيمان، وفيه: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» (رواه مسلم).

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في أركان الإسلام أنَّ رسول الله ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان» (متفق عليه).

فالحج فريضةٌ في حق كل مستطيع ماديًّا وبدنيًّا «والاستطاعة هي أن يكون المسلم صحيح البدن، يملك من المواصلات ما يصل به إلى مكة حسب حاله، ويملك زادًا يكفيه ذهابًا وإيابًا زائدًا على نفقات من تلزمه نفقته».

فمن يسَّر الله سبحانه وتعالى له ذلك ولم يكن أدَّى الفريضة فليتعجل إلى الحج، ولا يُقبل منه التقاعس عن ذلك بلا عذر؛ فإنه لا يدري ماذا يطرأ له في مستقبله، كما صحَّ لدى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «تعجَّلوا إلى الحج فإنَّ أحدكم لا يدري ما يعرض له».

المسؤولية الفردية في الحج:

إذا تحققت الاستطاعة للمسلم أصبح مكلفًا بأداء الفريضة وإتمام هذا الركن العظيم، وقد جاء الوعيد والتحذير من التهاون في ذلك. كما تترتب على الحاج بعد شروعه في هذا الركن مسؤوليات مهمة ينبغي له معرفتها ومراعاتها والقيام بها، فمن هذه المسؤوليات:

الأداء الصحيح للمناسك:

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۞ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[البقرة: 127 128].

فهذا خليل الله ورسوله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام يدعوان الله ﷻ بعد تأسيس قواعد البيت الحرام بقولهما: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا﴾، في إشارة إلى أهمية أداء عبادة الحج العظيمة على وجهها الصحيح. أخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب عن عليٍّ قال: «لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت، أي رب، فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علمناها، فبعث الله جبريل فحج به».

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: «يا أيها الناس! خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا» (رواه مسلم). وهو ما يدل على أهمية هذا الأمر، فعلى الحاج أن يتعلم الحج ليكون حجه صحيحًا مقبولًا.

التعبُّد الصحيح:

ومع حرص المسلم على معرفة الأداء الصحيح للمناسك، عليه أن يحرص دائمًا على اتباع السُّنة في كل عباداته، في صلاته وذكره ودعائه؛ حتى يعظم أجره بفضل الله تعالى. وأولى الخطوات لصحة العبادة، بل ركنها الأعظم الذي لا تصح بدونه عبادة ولا تُقبل: إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[البينة: 5]. وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ[الزمر: 11].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى-: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه» (رواه مسلم).

والركن الثاني للعبادة الصحيحة: أن تكون صوابًا موافقة للسُّنة؛ قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[الحشر: 7]. وكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا سأله أحد عن دليل من القرآن لأمر أو نهي شرعي يتلو عليه هذه الآية.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله ﷺ قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» (رواه البخاري ومسلم). قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: «لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا وصوابًا». فالخالص: أي الخالص لله تعالى، بلا رياء ولا سمعة ولا غرض سوى وجه الله جل وعلا، والصواب: أي الموافق للسُّنة بلا ابتداع.

وقد تمثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركني العمل الصالح «الإخلاص والاتِّباع» وهو يقبِّل الحجر الأسود، فقال -كما في الصحيح-: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبِّلك ما قبَّلتك». فحقق عمر الفاروق رضي الله عنه الإخلاص لله تعالى بالعبادة التي شرعها، كما حقق الاتِّباع لسُنة النبي ﷺ دون هوى أو رأي يضادها.

وما أجمل قول الشاعر متمثلًا بعض هذه المعاني:

إليك قصدي رب البيت والحجر
وفيك سعيي وتطوافي ومـزدلفـي
زادي رجائي لكم والشوق راحلتي
 
فأنت سُؤلي من حجي ومن عُمري
والهـدي جسمـي يغنـي عـن الجزر
والـماء مـن عبـراتي والهوى سفري
 

الشعور بالمسؤولية الجماعية:

وبالإضافة لما سبق من مسؤولية الحاج الفردية في معرفة المناسك والحرص على التعبد الصحيح وفق سُنة النبي ﷺ، فإنَّ على الحاج مسؤولية جماعية يشارك فيها جموع الحجيج، ففي هذا الموسم العظيم وما فيه من زحام وجهاد بدني تتجلى أخلاق الإسلام في الحلم الصبر على الأذى، فضلًا عن تجنب إيذاء الآخرين، فكل حاج مطالب باستشعار مسؤوليته في نشر هذه الأخلاق الفاضلة في هذا الموسم العظيم، ونبذ أسباب الشقاق والعداوات. وهناك مسؤولية أخرى مهمة تتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة؛ بتعليم الجاهل، وتذكير الناسي، وإرشاد الحجيج إلى هدي النبي ﷺ في الحج.

كل هذا في رفق ولين جانب وتواضع وخفض جناح؛ حتى تتلاقى الأخلاق والآداب الإسلامية مع النصح والإرشاد والأمر والنهي؛ فينتج من ذلك قيام بالمسؤولية الجماعية خير قيام بإذن الله تعالى.

فإذا رأى الحاج حاجًّا جاهلًا يخطئ في المناسك؛ لا ينبغي له أن يعنِّفه وينهره، بل يرشده ويعلمه برفق وشفقة عليه من حرمان أجر التعبد الصحيح. متأسيًا في ذلك بموقف النبي ﷺ من الأعرابي الذي بال في المسجد فزجره الناس فنهاهم عن ذلك، ثم أقبل عليه يعلِّمه ويُرشده برفق!

كذلك إذا رأى منكرًا لدى بعض الحجيج لا يدفعه بمنكر آخر من الغلظة والتسلط عليهم، بل يذكرهم بعظم ما هم فيه من زمان ومكان وحال، ويرغبهم في ثواب الله سبحانه وتعالى، ويدعو لهم، ويصبر على ما يلقاه من صدود بعضهم، فما عليه إلا البلاغ بالحكمة والحسنى، مستحضرًا قول النبي ﷺ: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، وهم آنذاك كفار يؤذونه أشدَّ الأذى!

التحلل من المشاغل الدنيوية:

إنَّ الـمتأمل في لباس الحاج «ملابس الإحرام» يراها ثيابًا في غاية  البساطة، فلا تفنن في حياكتها ولا تجميلها، ولا تميز لحاج عن آخر، إضافة إلى أنها بهذه الصفة مع لونها الأبيض تشبه الكفن، وهو ما يشعر الحاج بأنه تحلل من علائق الدنيا وأقبل إلى حجه متجردًا من كل متاعها يريد وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة.

فينبغي لك أخي المسلم إذا نويت الحج أن تتحلل من حقوق الناس قبل سفرك من ديون وخصومات ونحوها، ثم تتحلل أيضًا من هموم الدنيا ومشاغلها التي لا تنتهي، فتقبل على هذه العبادة العظيمة وقد تفرَّغ قلبك لها من كل الشواغل؛ فيكون ديدنك الإكثار من الذكر والدعاء والتلاوة، وإرشاد الجاهل، وتذكير الغافل، وإعانة من يحتاج إلى معاونة، وعدم إهدار شيء من وقتك في هذه المشاعر المباركة سُدًى، بل حتى في حال سكونك وراحتك يكون بالك ووجدانك مشغولًا بما أنت فيه من نسك، والاستعداد لكل خطوة فيه. ويحسن بك أخي الحاج أن تحرص على الرُّفقة التي تعينك في ذلك، وأن تتجنب رفاق البطالة والكسل الذين يضيعون أوقاتهم وأوقات الآخرين فيما لا يليق بهذا الموسم، فضلًا على غيره!

واعلم أيها الحاج الكريم أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فمتى صدقت الله تعالى في إقبالك على عبادته وذكره فسيكفيك سبحانه هموم الدنيا وأثقالها، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إنَّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلًا ولم أسد فقرك».

جاء في الحديث أيضًا عن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه وفرَّق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له».

فهذه بشارات تُعين المسلم وهو ينبذ الدنيا وراء ظهره ليقبل على عبادته مطمئنًّا إلى ثواب ربه الأخروي وفضله الدنيوي.

التخلص من أسر الذنوب:

من أهمِّ ما يحرص الحاج، وكل مسلم في كل وقت وحين، على التخلص منه، والفكاك من أسره: الذنوب والمعاصي.

ويعد موسم الحج من أعظم المواسم التي تُفتح فيها أبواب العفو والغفران والتوبة، وهي أبواب لا توصد حتى تطلع الشمس من مغربها، ولكن الله تعالى تفضل على عباده في هذا الموسم فزادهم فيه من فضله ونفحاته، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».

وروى مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟» وفي رواية: «اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم».

فهي فرصةٌ عظيمةٌ أن يتعرض المسلم لنفحات ربه في هذا الموسم الكريم، فرصة للخروج من الذنوب كيوم ولدته أمه، ليس بينه وبينها إلَّا أن ينيب ويتوب ويحسن في حجِّه فلا يرفث ولا يفسق، فما أكرم الله تعالى! وما أعظم جوده وكرمه! وما أشد خسارة من ينفَضُّ عنه هذا الموسم دون أن يغفر له!

استشعار الأخوة الإسلامية:

إنَّ الحاج في أثناء رحلته يمر بكثير من المشاهد والمواقف، لكن أعجب هذه المواقف وأشدها تأثيرًا في النفس مشهد يتكرر منذ بدء هذه الرحلة المباركة إلى نهايتها!

إنَّه مشهد الوحدة الإسلامية العظيم، مشهد الجموع المتجهة إلى مناسك واحدة، ومشاعر واحدة، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ربهم واحد سبحانه، ووجهتم واحدة، وحاجتهم واحدة، ذو الجاه والغنى لا فرق بينه وبين البائس الفقير، تعددت الألسِنة ولكن القلوب كلها تتجه بذكرها ودعائها لملك الملوك جل وعلا.

إنَّه مشهد رائع يجسد الأخوة الإسلامية في أجلي صورها، ويبث في النفس الأمل بأن في الأمة خيرًا كثيرًا، وأنه ليس بينها وبين العز والتمكين سوى تحقق هذا المشهد في سائر أحوالها، في وحدة وإخاء واجتماع على طاعة الله تعالى. ولا شكَّ أن استشعار هذه المعاني وتأمل هذه المشاهد يتفاوت بين الناس، والموفق من جعلها سببًا في اغتنام الأجر ورضوان الله تعالى، فحقق مقتضيات هذه الأخوة من المحبة والصفاء والتعاون على الخير وأعمال البر والصدقة والإحسان.

استشعار عِظَمِ الأجر الأخروي:

إنَّها لنعمة كبرى أن يمن الله ﷻ على العبد بتيسير حجه، وإتمام هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، فيما لا يجد كثيرون سعة ولا سبيلًا إلى ذلك. وإنَّ استشعار هذه النعمة يكون بقدر رغبة العبد في الأجر الأخروي، وإقباله على مولاه جل وعلا، ومعرفته بالثواب العظيم لأداء الحج، كما سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».

وقال ﷺ لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: «أما علمت أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله؟» (رواه مسلم). وصحَّ لدى النسائي وغيره، واللفظ للنسائي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد». وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأحمد عن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلَّا الجنة». وعن ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «تابعوا بين الحج وعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلَّا الجنة» (رواه أحمد والترمذي والنسائي). ففي هذه الأحاديث من الفضل والأجر والثواب ما تشرئب إليه نفوس من يرجون الله والدار الآخرة، وفي تذكُّرها والتذكير بها زاد إيماني يعين الحاج على تحمل المشاق، واحتساب الأجر، طمعًا في رحمة الله ﷻ ورضوانه.

الحج حركة جماعية:

ما أعظم مشهد الحجيج وهم يتزاحمون في المشاعر لأداء المناسك، دون ضجر أو تبرم أو استنكاف، فالكل لباسهم واحد، وعملهم واحد، طوافهم واحد، وسعيهم واحد، ورميهم واحد، ووقوفهم واحد، كل ذلك لإقامة ذكر الله جل وعلا كما أداه رسول الله ﷺ.

إنَّه مشهد الحركة الجماعية الذي يبعث في النفس التفاؤل بخيرية هذه الأمة، وأنها متى التف أبناؤها حول غاية واحدة، هي العبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له؛ فإنها أقرب ما تكون إلى العزة والنصر والريادة والتمكين. وهو مشهد للوحدة لا يوجد له نظير لدى أي أمة من الأمم؛ في دلالة واضحة على بطلان كل راية يلتف حولها الناس سوى هذا الدين الخاتم، فلا عرقية ولا قومية ولا حزبية ولا غيرها من الرايات الدنيوية.

الحج رسالة عالمية:

وما أعظم هذا الركن العظيم، بما يتوافر فيه من شعائر وعبادة وإقامة لذكر الله تعالى، بحركة جماعية تمثل الوحدة في أجلى صورها، رسالة عالمية تعلن للبشرية شعارات خالدة على مرِّ القرون، جاء بها الإسلام لإخراج البشرية من ظلمات الإلحاد والشقاق والعصبيات والحزبيات إلى نور الإيمان والإخاء والمساواة والوحدة. فالإيمان حمل الناس، وهم فئات شتى، على ترك الراحة والرفاهية والثياب الفاخرة، والوفود إلى المشاعر المقدسة بلباس يشبه الكفن، لم يحملهم على ذلك إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتصديقهم لرسوله ﷺ، وإخاء رفيع، ليس له مثيل، حمل الغني على مجاورة الفقير، وحمل ذا الجاه والوجاهة على أن يلاصق ذا الشأن الصغير، في صورة عملية للأخوة الإسلامية، لا تنصاع لها إلا النفوس المؤمنة بالدين الحق الخاتم، ومساواة حقيقية عملية، جعلت ألسِنة مختلفة وألوانًا متعددة، وشعوبًا كثيرة، يتراص أصحابها في مشاعر واحدة وعبادة واحدة. فلا فرق بين أسود وأبيض ولا عربي وعجمي إلَّا بالتقوى. إنَّها عالمية رسالة الحج، حقيقة لا خيال، تتساقط أمامها الشعارات الدنيوية، وتُحقق من التهذيب الروحي العام للأمة في أيام معدودات ما يحتاج تحقيقه في غيرها إلى الشهور والأعوام!

هذه رسالة عالمية تجمع علماء الأمة من مشارق الأرض ومغاربها للتشاور والتواصي بالحق والصبر، والدعوة إلى الله في أشرف البقاع والأزمنة. وإنها بشارات قوة الأمة كلما لاحت غيوم الأسى -بسبب كيد الأعداء وتتابع المحن والضعف والفتور- بددتها هذه البشارات في هذه الأيام المباركة العظيمة التي هي أفضل أيام الأمة.

حجة الوداع والوصايا الخالدة:

هذه الأجواء العامرة بالإيمان والإخاء، يتمثل العلماء والدعاة منهاج الأمة في الخطبة العظيمة الجامعة التي خطبها رسول الله ﷺ في حجة الوداع فقال ﷺ: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟»، قالوا: نشهد أنك قد بلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فقال: «اللهمَّ اشْهَد» (رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه).

ومن هذه الخطبة العظيمة ومن منهاج النبوة عمومًا يستلهم الجميع توصيات القدوة، علماء ودعاة وقادة ووجهاء وشبابًا وشيبًا رجالًا ونساءً:

التوصية الأولى: تجريد النية وإخلاصها لله سبحانه وتعالى، فما خرج الحاج من بيته إلا ابتغاء وجه الله تعالى؛ فليراقب نيته، ويخلصها من نزوعها إلى الرياء والسمعة.

التوصية الثانية: قيام كل مسؤول بمسؤوليته، وخصوصًا على مستوى الدول والحكومات والبعثات والطوافة والحملات، وكل ذي مسؤولية كبرت أو صغرت، بتيسير هذه الفريضة لمن توجه إليها، وتذليل العقبات.

التوصية الثالثة: التعاون الفردي والجماعي، والرحمة بالكبير والرفق بالصغير والعطف على الضعيف، والتعامل بأخلاق الإسلام وآدابه.

التوصية الرابعة: تمثل حكمة الحج، في إقامة ذكر الله تعالى، كل بحسب موقعه، وذكر الله وشكره على نعمته مقالًا وحالًا.

أمـا والـذي حـج الـمحبـون بيتـه
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعًا
يـهـلُّـون بـالبيـداء لبيـك ربـنـا
دعـاهـم فـلبَّوْه رضًـا ومـحبـة
 
ولبــوا لــه عنـد الـمهل وأحرموا
لعـزة مـن تعنـو الـوجـوه وتسلمُ
لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
فلمـا دعـوه كان أقـرب مـنـهـمُ
 

وفق الله الحجيج وأعانهم وحفظهم بحفظه، وحرس الله هذه البلاد التي شرفها بالمشاعر المقدسة، وأعان مسؤوليها على مهمتهم، وتقبل من الجميع حجهم وعمراتهم وسائر أعمالهم الصالحة إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.