التميُّـز

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

التميز:

كلمة محببة للنفوس في مختلف المجالات، وهي في هذا الوقت، ومع تفتق كثير من المجالات وتنوعها، وسهولة الاتصال بين الناس في أرجاء المعمورة، الاتصال المباشر وغير المباشر، وسهولة الوصول إلى المعلومة، وتيسُّر مجالات تنمية المهارات، واكتشاف القدرات.

كل هذا وغيره من أقوى الدوافع للبحث عن التميّز، ومن أكبر العوامل للوصول إليه، بيد أن الأمر كغيره من المطالب العليا التي تحتاج إلى محددات ومعالم لضمان عدم الوقوع في مسارات غير سليمة، أو الدخول في متاهات يصعب الرجوع عنها.

ومن الميسِّر للأمر لنا نحن المسلمين أنَّ المعالم ليست غامضة، ولا معقدة، وإنما تحتاج إلى شيء من التبصر، ولعلِّي أجلي ما قصدته في النقاط الآتية:

الأولى: أنَّ مفهوم التميُّز المنشود هو الاستفادة من إمكانات الإنسان لما يحقق له ولغيره المنفعة في الدنيا والآخرة، أو ما يدرأ عنها أو عن غيرها المضرة في الدنيا والآخرة.

وبناء على هذا، فليس التميز أمرًا خياليًّا لا يستطاع الوصول إليه، أو لا يصل إليه إلَّا نوادر من الناس، بل هو أمر متاح لكثيرين إذا تحرر لديهم المفهوم، وعملوا بالعوامل الموصلة إلى هذا التميُّز المنشود.

الثانية: في ديننا تحفيز كبير للوصول إلى التميُّز في أي مجال مشروع، ومن هذه المحفِّزات:

حثَّ القرآن على التبصر والتفكر في الكون بما خلق الله تعالى فيه من المخلوقات العظيمة، وبما تحمله من مكنونات لنفع الإنسان واستمرار الحياة، والحث على التبصر في الحياة، وطلب عمارتها المتضمن لعمارة الكون، والحث على التبصر في الإنسان ذاته ليكتشف ما أودعه الله فيه من القدرات والمواهب ليستثمرها فيما ينفعه في هذه الحياة وما بعدها.

والآيات في هذا المعنى العظيم أكثر من أن تحصر، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٦٤﴾ [البقرة: 164]. وقال جل ثناؤه: ﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰمًۭا وَقُعُودًۭا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًۭا سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ [آل عمران: 190- 191].

وحثت السُّنة النبوية على مجالات عدة، كلها توصل إلى هذا التميُّز، ومن ذلك:

حثّ النبي ﷺ على تشغيل العقل والفكر، مثل ما يطرحه النبي ﷺ من أسئلة في جلساته مع أصحابه، فقد سألهم الرسول ﷺ عن حقيقية الإفلاس، فجعل الأمر على شكل سؤال، فقال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».

وسؤالًا آخر: كما جاء في حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟»، فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: «هي النخلة». وغيرها كثير مما يكون من شأنه تحريك العقول والأفهام.

حثّ النبي ﷺ على استثمار المواهب وتنمية القدرات، فنجد ذلك في كثير من وصايا النبي ﷺ، وفي أفعاله، ففي هذا المجال يقول ﷺ: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به-، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» (رضي الله عنهم).

كما نجده ﷺ يتوخى بعض المهمات ليقوم بها بعض الصحابة، ومن ذلك: إرساله معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، واستكتم حذيفة أسراره وبخاصة فيما يتعلق بالمنافقين، ويقول في حق عبد الله بن عمر: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» فكان عبد الله (رضي الله عنه) يصلي من الليل.

من ميادين التميُّز:

العبادة أمر توقيفي ولا مجال للإبداع فيها إلا من وجه المحافظة عليها والعمل بما ورد بشأنها، فالعبادة لا يجوز فيها الزيادة، أو التبديل، أو التحريف، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ ؟! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله ﷺ إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
لأنَّ الزيادة على فعل الرسول ﷺ، وإدخال أمور أخرى في الدين لم يفعلها النبي ﷺ بحجة التقوى والورع والتعبد يدخل الإنسان في البدعة المحظورة التي نهى عنها النبي ﷺ بقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».

أما سائر المجالات فجاء الحث فيها كما يلي.

أولًا: التميُّز في المجال العلمي والـمعرفي:

العلم في الإسلام عام وشامل لجميع العلوم، الشرعية والتجريبية والنظرية، وقد حث الإسلام على العلم ورفع مكانة العلماء، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿١١﴾ [المجادلة: 11]. وقال جل شأنه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿٩﴾ [الزمر: 9]. ويقول تبارك وتعالى في شأن العلماء: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿٢٨﴾ [فاطر: 28].

وقال ﷺ : «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طُرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وبيان هذا الفضل للعلم والعلماء في التوجيه النبوي فيه دلالة على مدى عناية الرسول ﷺ بهذا الميدان المهم في حياة الإنسان، كما أن فيه إشارة واضحة إلى حثه ﷺ المؤمنين على الإبداع والاجتهاد في هذا الميدان الذي يحدد مصير الأمم ومستقبلها في التقدم التطور.

ثانيًا: التميز المهني والتقني (العمل):

الحديث عن التميز المهني والتقني ينتظم النقاط الآتية:

مشروعية العمل والحث عليه: العمل في الإسلام عبادة، وجاء الحث عليه في كتاب الله تعالى بشكل عام دون تمييز بين ما يكون للدنيا وما يكون للآخرة، لأن العمل الذي يدعو إليه الإسلام هو العمل الصالح بجميع أشكاله، قال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٠٥﴾ [التوبة: 105]. وحث الشرعُ المؤمن على العمل حتى يكون لوجوده معنًى، وحتى لا يكون كَلًّا على الآخرين، يقول : «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود ( عليه الصلاة والسلام) كان يأكل من عمل يده».

نوعية العمل: وأما نوعية العمل فهي كل عمل مفيد ومشروع ويكتسب الإنسان من ورائه رزقًا لنفسه ولأسرته فهو عمل مبارك.

إلا أن الشرع وضع لهذا العمل ضوابط وشروطًا لا ينبغي الخروج عنها وتجاوزها، ومن أهمها:

  • ألا يكون هذا العمل متعارضًا مع نص شرعي من الكتاب والسُّنة، وألا يخالف ثوابت الدين، كالذي يصنع الخمور، أو الذي يصنع التماثيل وآلات الموسيقى، وغيرها من الأعمال المحرمة.
  • ألا يكون هذا العمل سبيلًا للاعتداء على حقوق الآخرين في أموالهم أو أنفسهم أو أعراضهم، كالقمار أو السرقة.
  • ألا يكون هذا العمل مدخلًا لتمزيق المجتمع المسلم وزرع الأحقاد والفتن بين أبنائه، مثل الذين يقدمون البرامج الإعلامية التي تثير الفتن والأحقاد بين الشعوب المسلمة، وقد كثر هذا النوع من العمل في هذا العصر.

الإتقان والتجديد والتطوير في العمل: وأما الإتقان في العمل فإنه من أهم دعائم العمل الصحيح الذي يسهم في تطوره وتقدمه، حيث يعطي صاحبه دافعًا إبداعيًّا كبيرًا، لأنه يفتح أمامه آفاقًا أخرى وأفكارًا جديدة لم تكن متوافرة عنده من قبل، ولذلك جاء التوجيه النبوي واضحًا في ضرورة الإتقان في الأعمال الموكلة إلى الإنسان، فيقول ﷺ : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه». ثم إن النبِي ﷺ يُعلِّم المؤمن أنه مأمور بالعمل والسعي والحركة في الحياة، وإن لم يحصل على نتائجه وثمراته المرجوة مباشرة، لأن بعض الأعمال تحتاج إلى وقت طويل قد تَجني ثمراته الأجيال اللاحقة ويستفيدوا منها في العملية الإبداعية والابتكارية، فضلًا على الأجر والمثوبة عند الله تعالى يوم القيامة، وهذا مضمون حديث رسول الله ﷺ حين قال: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل».

ثالثًا: الإبداع في المجال الأدبي والبياني:

حث الشرع على رعاية الجانب الأدبي واللغوي عند المؤمن، لأهميته في فهم القرآن وتفسير آياته، فضلًا على أن الفطرة السليمة والذوق الرفيع عند العرب يرنوان دائمًا إلى الإبداع الأدبي، فقد روى ابن عمر  أنه: جاء رجلان من المشرق فخطبا فقال النبي ﷺ : «إن من البيان لسحرًا». وقد كان ﷺ يستمع إلى شعر حسان بن ثابت (رضي الله عنه) ، ويأنس به، وأحيانًا يردده. وأنشد كعب بن زهير بردته التي مدح فيها الرسول ﷺ ، وكان من نتائجها أن أهدى الرسول ﷺ بردته إليه، والتي يقول فيها:

إن الرسول لنور يستضاء به                       مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم                 ببطن مكة، لما أسلموا: زولوا
زالوا، فما زال أنكاس ولا كشف                  عند اللقاء ولا ميل معازيل

بل إن النبي ﷺ كان يتفاعل مع هذا الأدب الرفيع الذي يشد من العزائم ويبث الحب والتعاون بين أصحابه رضوان الله عليهم، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون:

نَحْنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمدَا                          عَلَى الإسْلامِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

والنبي ﷺ يجيبهم ويقول:

اللهم إِنه لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ                  فَبَارِكْ فِي الأنْصَارِ وَالْـمُهَاجِرَه()

 

وبرز الأدباء المسلمون منذ ذلك العهد إلى هذا اليوم واستخدم الأدب في نصرة الإسلام والمسلمين، وعلو الأخلاق والهمم، وكم عمل الإبداع في تغيير حياة الناس إلى الأفضل، فهذا عبدالله بن رواحة وهو مقبل على الشهادة في غزوة مؤتة يقول:

لكنني أسأل الرحمن مغفرة                   وضربةً ذات فزْغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً                   بحرْبةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جَدثي              أرشده الله من غاز وقد رشدا

فالتميز الأدبي الحقيقي هو التميز الهادف الذي يعالج القضايا المصيرية للناس، سواء كانت أخلاقية أو اجتماعية أو دينية، أما الأدب المخالف فليس له من ذلك نصيب، وإنما الغاية الأولى والأخيرة هي إشباع الغرائز وإثارة الشهوات، واتباع هوى النفس ورغباتها.

رابعًا: الإبداع الفكري:

لقد كرم الله تعالى الإنسان حين خلقه من طين ثم نفخ فيه من روحه ثم أمر الملائكة بالسجود له، يقول تبارك وتعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّى خَـٰلِقٌۢ بَشَرًۭا مِّن طِينٍۢ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُۥ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِينَ ٧٢ ﴾ [ص: 71 – 72].

وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].

لذا، حث الإسلام على الحفاظ على العقل وصيانته وعدم تعريضه للآفات، فنهى عن التشاؤم والتطير، قال : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»().

ونهى عن الاستسلام للكهنة والمشعوذين والسحرة، قال ﷺ : «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة».

وفي الجانب الآخر حث الشرع على إعمال العقل في الاجتهاد وتربيته على ذلك، فقد اجتهد الرسول ﷺ في بعض الأمور، كاجتهاده ﷺ في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك وقدموا الأعذار، فإن الله تعالى بين الحق في ذلك بقوله: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾ [التوبة: 43]، وكذلك اجتهاده في غزوة بدر حين وضعوا في مكان وأشار عليه أحد الصحابة بعد أن علم أنه اجتهاد وليس أمرًا إلهيًّا أن ينتقل من هذا المكان إلى بئر بدر، كما حدد الشرع حدود الفكر ووضع له ضوابط، ومن أهم هذه الضوابط:

  1. عدم التفكر في الذات الإلهية، والخوض في ذلك والجدال فيه، لأن ذلك يؤدي إلى الانحراف ووضع التصورات التي لا تليق بجلال الله وعظمته، والله تعالى يقول: ﴿ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [الشورى: 11]. فالموقف من هذا إثبات ما أثبته الله ﷻ لنفسه وما أثبته له رسوله ﷺ ، من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
  2. لا يجوز للفكر أن يتجاوز حدوده ليناقش ركنًا من أركان الإيمان أو أركان الإسلام.
  3. ليس للفكر أن يتدخل في أمور الحلال والحرام، كأن يحلل حرامًا، أو يحرم حلالًا، وذلك بتقديم حجة العقل على النقل في بعض هذه الأمور.
  4. لا يحق للفكر أن يخالف أمرًا أجمع عليه علماء الأمة من أهل العلم، سواء كانوا من الصحابة أو من التابعين أو مَن بعدهم.

وما خلا ذلك من المجالات الفرعية في الأمور الدينية أو الدنيوية فللفكر الحرية في الخوض فيه والإبداع بالشروط والضوابط العلمية، وقد حث الإسلام على ذلك، ليقدم لنفسه وللمجتمع وأمته أفضل السبل والأدوات التي تعينهم على تطبيق تعاليم دينهم وتسهيل سبل معاشهم وحياتهم.

وهكذا فإن هذا الدين يحث المؤمن على الاجتهاد والإبداع في ميادين العلم والفكر والعمل والاقتصاد وغيرها من النواحي الحيوية التي تحقق السعادة والراحة والأمن والسلامة للإنسان، وهذا يدل على الشمولية في الإسلام، حيث لم يترك هذا الدين الإنسان بين الاهتمام به في بعض الجوانب وترك بعضها الآخر، بل جعل من كل آماله ورغباته وحاجاته في الحياة موضع عناية واهتمام وتكريم. وللحديث بقية.

نسأل الله تعالى أن يحقق الآمال، وأن يرزقنا حسن القصد في القول والعمل، إنه سميع قريب مجيب.

وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.