home-icon
الإجازة والمواهب والقدرات

الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أحمده سبحانه وأشكره وهبنا من العقول والقدرات والمواهب فهو الخلاق العليم، وأصلي وأسلِّم على النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه أهل العلم والفكر القويم، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فإنَّ لكل حادث حديثًا، ولكل مناسبة شجونها، وحديثنا وشجوننا في هذه الأسطر يحوم حول ما نستقبل هذه الأيام من الإجازة الصيفية التي تكون مستراحًا للمعلمين والمعلمات، والطلاب والطالبات، كما هي فترة تأمل للأسرة بعد عام دراسي مع الأبناء والبنات، وهي فرصة للاستفادة منها بما يعود بالنفع والفائدة للجميع، ولا أطيل في المقدمات، لكن نقف مع هذه المناسبة، ومع هذه الشجون الكثيرة وقفات أرجو أن تكون مفيدة إن شاء الله ﷻ:

الوقفة الأولى:

لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميَّزه على سائر المخلوقات بالعقل الذي جعله مناط التكليف، والمحاسبة، ووهبه مواهب متعددة، ومنحه فُهومًا وحواس، وأعطاه قدرات لو سخرها لعمر بها الكون الذي هو غاية من غايات خلق الإنسان.
هذا العقل، وتلك المواهب والقدرات، والفهوم والحواس متفاوتة بين البشر ولذلك يكمل البشر بعضهم بعضًا ليعمر الكون، ويتكامل الجهد، وتسعد البشرية جمعاء، ومن هنا وجه الإسلام إلى تفعيل هذه القدرات والمواهب والاستفادة منها، كلٌّ بما منحه الله سبحانه وتعالى، ليصل إلى الغاية المرادة من خلق الفرد ذاته، أو من خلق الإنسان بجنسه، وبنظرة فاحصة لجيل من الأجيال كجيل الصحابة رضي الله عنهم تجد هذين الأمرين بغاية الوضوح:

  • التفاوت بين القدرات والمواهب.
  • التكامل فيما بينهم.

فالنتيجة: ظهر ذلك الجيل الذي كان مثالًا لإسعاد نفسه وإسعاد البشرية في حينه، وعمارة الكون، بعد أن كان جيلًا -قبل البعثة النبوية- همجيًّا، فوضويًّا، يستغل قدراته في إشباع شهواته البهيمية، لا يتمتع إلا بشيء يسير من المُثل والقيم، وضع عقله في الحضيض حيث وصل إلى عبادة شجر، أو حجر، أو تمرة، ونحوها، قويُّه يأكل ضعيفه، وغنيه يأكل فقيره.

الوقفة الثانية:

هذه القدرات والمواهب ذات بعدين لا يلتقيان: البعد الأول: البعد الإيجابي، وهو تسخير هذه القدرات في النافع والمفيد، مثل تسخير قدرة القراءة، فيقرأ القارئ ما يفيده ابتداءً بكتاب الله تعالى ثم في السُّنة والسيرة النبوية، في كتب التخصص العلمي، وشيء من الأدب الراقي، والعلوم والمعارف العامة، فمثل هذا سيجد نفسه بعد وقت من الزمن حمل علمًا كثيرًا كان سببًا لرقيه في الدنيا وسعادته في الآخرة، وقل من يسخر قدرته الكلامية في خطابة رنانة تصور المفيد، والقيم، والأخلاق للسامعين.

ومثله من يمتلك قلمًا يسطر فيه مشروعات فياضة، ومُثلًا عليا، وقصصًا رائعةً، أو حُكْمًا شرعيًّا، أو حِكَمًا ومعارف، ومثل ذلك يقال للشاعر، والمهندس، والطبيب، والماهر بصنعه، إلخ.

البعد الثاني: البعد السلبي، وهو تسخير القدرات والمواهب في غير المفيد، أو في الضار أحيانًا، وهذا كمن يسخر المقدرة القصصية لديه والقدرة على الإنشاء والتعبير في غيبة فلان أو علان، أو الكذب على الناس، أو تصوير الحق باطلًا، والباطل حقًّا، ومثل ذلك يُقال للكاتب الذي يلبس الحقائق، ويقلب المفاهيم ويصور الأشياء على غير حقيقتها، أو يدس في كلامه السم الذي لا يدركه إلا من كان حصيفًا.

وقلَّ مثل ذلك في سائر القدرات والإمكانات والمواهب التي وهبها الله تعالى لهذا الإنسان.

من هنا جاءت النصوص التي لا تُعد ولا تحصى للتنبيه إلى هذين البعدين ليحدد الإنسان موقفه، وأمثل بمثال واحد، ففي أمر اللسان: قال تعالى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال تعالى: ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾ [الإسراء: 36] وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء: 13-14]. ويقول الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل – رحمه الله -: «يا معاذ كف عنك هذا -وأشار إلى لسانه- قال معاذ: أومؤاخذون يا رسول الله بما نتكلم به؟ قال ﷺ: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم».

هذه النصوص وغيرها كثير تشير بوضوح إلى أهمية الاستفادة من قدرة اللسان فيما يكون إيجابيًّا، و في عدم استغلاله بما يكون سلبيًّا، وقلَّ مثل ذلك في سائر القدرات والمواهب.

الوقفة الثالثة:

لا شكَّ أنَّ المحرك الأساس لهذه القدرات هو شعور المسلم بما أوجبه الله تعالى عليه في وجوده في هذه الحياة وذلك بأن تكون حياته كلها لله سبحانه وتعالى، منطلقًا من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[الأنعام: 162-163]. كما تكون منطلقة من عبوديته لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات: 56]. فإذا كان ذلك كذلك، فليبرمج المسلم نفسه في تفعيل قدراته من هذا المنطلق الأساس، وسيجد –بإذن الله تعالى– مجالًا رحبًا لا يتصور مداه لتفعيل هذه القدرات.

الوقفة الرابعة:

من المهمِّ جدًّا في تفعيل القدرات ما يلي:

  • أن يحاول الإنسان أن يكتشف ما لديه من القدرات والمواهب لكي لا يخطئ الطريق فيضلَّ، ومن ثَمَّ يصطدم مع نفسه ويعد نفسه في أعداد الفاشلين، وهو ليس كذلك وإنما أخطأ الطريق فحسب.
  • لا مانع من أن يستشير من هو أعلم منه، أو أكثر خبرة، أو درَّسه، أو عمل معه، وفي المقدمة الوالدان والمعلمون ورؤساء العمل.
  • أن يتدرج الإنسان في تفعيل قدراته حتى لا يصطدم بعقبة كبرى، فجميع سبل الحياة بنيت على التدرج حتى يبلغ الكمال البشري أو يقاربه.
  • الحذر من تقليد الآخرين، فليعلم الإنسان أن قدراته تختلف عن قدرات غيره ولنا مثال حي واضح لا ينكر، وذلك بالبصمة، إذ لكل إنسان بصمته الخاصة، فكذلك قدراته ومواهبه، فما عليه إلا أن يكتشفها، ويفعلها، نعم، لا مانع، وبل يستحسن الاستفادة من تجارب الآخرين الذين سبقوه في ميادينه.
  • الصبر ثم الصبر على فعل كل أمر إيجابي، أو ترك أي أمر سلبي فما نيلت المعالي، ولا وصل الواصلون إلى القمم، ولا نفع النافعون، وعلم المعلمون إلَّا بالصبر، وبخاصة في البدايات.

الوقفة الأخيرة:

من الخير العظيم، أن يُستفاد من الفرص التي تمنح للإنسان، مثل هذه الإجازة الطويلة إلى حد كبير فهي فرصة عظيمة للطلاب والطالبات لتفعيل المواهب والقدرات، وبخاصة ما يتيسر لنا في هذه البلاد المباركة من مجالات متعددة مثل، دور تحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات، والدورات العلمية، والأندية الصيفية، ومراكز التدريب، والرحلات العلمية، ومجالات البيع والشراء وغيرها، وإنَّ من الغبن الفاحش والخسارة الفادحة أن يضيِّع الشباب والشابات مثل هذه الفرص فيذهب الوقت عليهم سُدًى بين نوم وكسل وخمول، أو ما هو أشدُّ من التعرض للفتن وتسخير الطاقات في أمور سلبية لا تحمد عقباها، إنها فرصة عظيمة فلنجتهد فيها قبل فوات الأوان،

حقق الله سبحانه وتعالى الآمال وسدد الخطى.