أبو بكر الصديق

مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه كثيرة، هو أفضل البشر بعد الأنبياء بالتحقيق، أول من آمن برسول الله عليه الصلاة والسلام وصدَّقه إذ كذبه قومه، ونصره إذ خذلوه، في حياته رضي الله عنه جوانب كثيرة بارزة هي محل الوقوف والتأمل، نذكر منها ما يلي:

المسارعة في الخيرات، إن الله عز وجل قد أمر المسلمين بالمسارعة إلى الخيرات وامتدحهم بها فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (134) وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:133، 134] وقال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].

وعندما نقرأ سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه نراه يسارع إلى جميع أنواع الخير: الإيمان، العبادة، الصدقة، الإحسان إلى الناس، فهو أول من آمن برسول الله عليه الصلاة والسلام، فروى البخاري رضي الله عنه في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ الله لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَالله أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الله بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مَرَّتَيْنِ. فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.

وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُم الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُم الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْـجَنَّةَ».

حرصه رضي الله عنه على تنفيذ الشرع ووصايا رسول الله عليه الصلاة والسلام بكل دقة، كان رضي الله عنه أفقَهَ الأمَّة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ولأنه أفقه الأمة كان أحرصهم على إقامة الدين وألزمهم بما تركهم عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبعد أن توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وارتد من ارتد من العرب، وبعضهم ادعى النبوة وكذب، ومنهم من منع الزكاة وحارب، لم يتزلزل قدما أبي بكر الصديق رضي الله عنه في إقامة الأمور وردها إلى ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام في حياته، يقول عروة عن عائشة رضي الله عنها: لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها()، اشرأبَّ النفاق بالمدينة وارتدت العرب، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظِّها من الإسلام.

ومن ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه بعث خالدًا، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، من ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعًا: على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.

فكان رضي الله عنه لا يتساهل في إقامة الدين شيئًا، ويحرص كل الحرص على أن تكون الأمور كلها على ما كان عليه زمنَ رسول الله عليه الصلاة والسلام، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَـمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلَّا الله فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى الله» فَقَالَ: وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ الله عليه الصلاة والسلام لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَالله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ الله صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

ومن ذلك أيضًا التزامه رضي الله عنه ببعث جيش أسامة بن زيد إلى ما وجَّه إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل وفاته ولم يقبل قول من قال: احبسهم لأننا نخاف إذا سمعت العرب بوفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تميل علينا، يقول عروة: فلمَّا فرغوا من البيعة واطمأن الناس قال أبو بكر لأسامة بن زيد: امض لوجهك، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: أمسك أسامة وبعثَه فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: أنا أحبس جيشًا بعثهم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل علَيَّ العرب أحب إليَّ من أن أحبس جيشًا بعثهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أمرتَ به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله عليه الصلاة والسلام من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإنَّ الله سيكفي ما تركتَ، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر فأستشيره واستعين به فافعل، ففعل أسامة، فقُدم بنعي رسول الله عليه الصلاة والسلام على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرًا واحدًا، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم وأغاروا على أرضنا!؟.

وهكذا قد جعل الله عليه الصلاة والسلام أبا بكر رضي الله عنه سببًا لقوة الإسلام والمسلمين، ووهبه الثبات على الحق وهداه إلى الصراط المستقيم، والله لو كان قبل التنازل في أمر من أمور الدين لتلاه التنازل بعد التنازل إلى يوم الدين.
مسارعته في الإنفاق في سبيل الله، كان رضي الله عنه لا يجد فرصة للإنفاق في سبيل الدعوة إلا اغتنمها، ولعله لم يسبقه أحد في هذا المجال، حتى قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ الله بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الله». وقال عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ».

والرسول عليه الصلاة والسلام حينما مدح أبا بكر رضي الله عنه في إنفاقه في سبيل الله فلا شك في كونه مستحقًّا لهذا المدح الجليل، حيث إنه وقت هجرته إلى المدينة أخذ جميع أمواله ليقدمها في خدمة رسول الله عليه الصلاة والسلام ليصرفها كيف يشاء، وموقفه في غزوة تبوك يعرفه كل مسلم حيث أتى بجميع ما في البيت ولم يستطع عمر أن يسابقه، روى أبو داود والترمذي عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ. قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُم الله وَرَسُولَهُ. قُلْتُ: لا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.