العداء للحقِّ ولأهله حقيقة وسنة شرعية، بل على حسب مقام العبد ومنزلته يكون البلاء والعداء، وفي الحديث: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء والمرسلون، ثم الأمثل فالأمثل»، ولم تقم دعوة الإسلام والحق ولم تبلغ ما بلغت إلا بعد تضحيات جسيمة، وتحمل صنوف من الأذى، وأوَّل من واجه ذلك وصبر عليه هو إمام هذه الدعوة صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك للمسلم أسوة في مواجهة المشكلات والأذى الذي يعترضه خلال أدائه لواجب الدعوة.
فما ذكرته بالفعل –أخي الكريم– حقيقة تاريخية، وهي قبل ذلك مصداقٌ لسننٍ شرعية أن الله يبتلي أولياءه ومصطفَيه ونبينا عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، ومقامه أعلى المقامات، ولهذا تجد أنَّ النَّبي عليه الصلاة والسلام قد لقي من صنوف الأذى والقذى ما لا يوصف شدَّة وثقلا منذ مطلع بعثته وإلى اليوم.
خذ مثلًا من صور العداء ما حصل له من الأذى ولأصحابه من القتل وهو يواجه ذلك بالصبر والرضا؛ يُشج وجهه وتكسر رباعيته ويمثل بعَمِّه وهو صابر، ولـمَّا علم الكفار وأهل النفاق منزلة عائشة لديه بين سائر نسائه رضي الله عنهم لم يتركوه إلَّا وخاضوا في شرفها بعدما كانوا يرمونه بالألقاب البذيئة كالكذَّاب والسَّاحر، ولا يتكلم، وخرج للطائف فضربوه وأدموه وهو ساكِنٌ، ولا يدعو عليهم، مع أنه لو طلب لأطبق الله عليه الصلاة والسلام عليهم الأخشبين، ويشدَّد عليه الموت وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار غليظ وتسلب روحه وما عنده زيت يوقد به المصباح.
ثم تحصل فتنة الرِّدَّة بعد وفاته، ويظهر أدعياء النبوة، وهم فئة حاسدة للنبي عليه الصلاة والسلام على مكانته، وتستمر صور العداء في تواصل تزكية روح الشر وعدم الرضا التي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120]، حاول يهود الأمس قتله غيلة، ونجحوا عن طريق اليهودية التي وضعت السم في طعامه.
وفي استمرار مسلسل العداء لكل ما يمت للدين الإسلامي بصلة وإلى اليوم دليل مداولة الله عليه الصلاة والسلام لحقيقة الصراع إلى يوم القيامة.
هذه الأحداث حلقة من حلقات الصراع بين الحقِّ والباطل تخضع لحكمة الله تعالى في المداولة بينهما، ولا يظهر الباطل إلَّا إذا ضَعُفَ (أصحاب) الحق، والمسلمون في هذا الوقت لمَّا بعدوا عن مناهج النصر وأسبابه وقعوا في ضعفٍ سياسي واقتصادي وعسكري حتى تمكن منهم أهل الباطل، بينما يملكون مقومات نصر تتيح لهم العودة إلى سابق قوتهم إنْ هم عادوا إليها.
فيما يظهر لي أنه يدل على عدة أمور يمكن إجمالها فيما يلي:
ما يجب أن يدركه المسلمون اليوم هو أنَّ هذه المحنة التي أنزلها الله تعالى علينا، بداية خير كثير، لو استفاد منها المسلمون بطرق كثيرة، وأنَّ شعاعًا عظيمًا من الأمل والنصر قد أشرق من جنباتها المظلمة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
والأمَّة مأمورة بالدفاع عن نبيِّها ودينِها وهذا من مقتضيات الإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام التي يفخر المسلم بها وينجو من الخزي والهلاك، وموضوع المقاطعة الاقتصادية أنها واحدة من الحلول المؤثرة التي يستطيعها كل أحد، ويسهم من خلالها، وقد بدأ تأثيرها على هؤلاء الأعداء هناك، وعلى من يقلل أهميتها أن يكلف نفسه قليلًا ليقرأ ما يقولون هم عنها، وفي هذه المناسبة أشير إلى أن مما يبعث السرور في النفس ما نراه في حملة نصرة النبي عليه الصلاة والسلام من تفاعل كبير، وحراك في مجتمعات المسلمين.
وإن مما يؤسف له أن تسمع أو تقرأ عمن ينادي أو يقلل من أهمية المقاطعة كحل يختاره المسلم صاحب الضمير، وفي هذه الأحوال وفي ظلِّ هذه الإساءات الفجة والعميقة يتابع فيه فعل الصحابي الجليل «ثمامة بن أثال الحنفي» حين قرَّر وإيقاف جميع صور التعاملات التجارية بين قبيلة قريش وبين قبائل اليمامة.
لقد استطاع الإعلام العربي والإسلامي «على اختلاف وسائله الـمتلفزة والمطبوعة والإذاعية والإلكترونية» أن يُحدِث ضجة إعلاميَّة حقيقية، أثارت فضول الملايين من الأمم الأخرى لمعرفة «ماذا سيقول المسلمون ردًّا على هذه الإساءة العظيمة».
وهذه بحدِّ ذاتها نعمة أنعم الله تبارك وتعالى بها، أن جعل الأمم الأخرى مستعدة لسماع ما نقوله، فماذا يجب أن نقول؟
ينبغي أن يضع إخواننا هناك –وفقهم الله– في أذهانهم أنَّ العدو حينما يسفل ويتواقح في عداوته وكراهيته لنا فإن ذلك لا يجعلنا في حِل أن نسفل سفوله، ولا أن نتخلى عمَّا يليق بنا وما عُرف عنَّا من التزام لمنهج العدل وتحلٍّ بالأخلاق الفاضلة في كل أحوالنا.
فليس من النصرة في شيء استثارة من لم يباشر الإساءة ومواجهته، بل إن رجل الشارع العادي له حقٌّ علينا في أن نريه ويرى منَّا خلاف ما يحاول أعداء الإسلام ووسائل إعلامهم أن يلصقوه بالمسلمين، ولنا في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة في صبْرِه وحلمِه وترفُّعِه ومعاملتِه لأعدائه، فالدَّعوة مفتوحة لجميع الـمسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، بكل لغاتهم، بتوجيه رسائل دعوية، لا تتضمن إلَّا ما يقرِّب غير المسلم من دين الإسلام، وأن يحذروا من محاولات النيل والوقيعة التي يستغلها المغرضون، ويقطعون الطريق على كلِّ من يحاول الاصطياد في الماء العكر.
وبناءً على هذا فعلى المسلمين هناك أن ينشطوا في التدين بالإسلام ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، متذكرين في هذه المحن قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11]، ولكن يكون خيرًا إذا استُفيد منه الفائدة المرجوة. وفق الله الجميع لـما يحبُّ ويرضى، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.