الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فعمارة الكون هدف من أهداف وجود الإنسان في هذه الحياة، عمارة حسية، وعمارة معنوية، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30]، ولا شكَّ أنَّ أعظم عناصر عمارة الكون: وجود العلماء العاملين الذين ينطلقون من التصور الحق للكون فيقيمون حياة الناس على التوازن الصحيح، فيضبطون حياتهم وحياة الآخرين بالمنهج المستقيم فيخلفون سلفهم، ويواصلون المسيرة الحقة فيتحقق بهم هدف من أعظم أهداف خلق الإنسان، ولهذه الحقيقة جاء في القرآن الكريم التركيز على جانبين مهمين:
الجانب الأول: ميدان العمارة، وهو التفكر والاعتبار بالكون وجزئياته ليستخرج منه ما يعمره عمارة حسية ومعنوية، ولا يشترك في هدمه، ومن هنا نجد أساليب القرآن الكريم حول هذه القضية أساليب متعددة، منها:
الجانب الثاني: ميدان العلم وتفضيله جل وعلا لأهله، فهم منطلق إرشاد الناس، وتوضيح الحق لهم، وبيان الطريق، وأصحاب الحجة، وإيضاح المحجة. وما ذاك إلا لتحقيق أهداف خلق الخلق بهم من هداية الناس وعمارة الكون. فوجودهم خير عظيم، منارات يُهتَدى بها، وعلامات يُستضاء بها، اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالته، وميراث أنبيائه، وللقيام بالعهد والأمانة. من اتبع سبيلهم قادوه إلى ساحل النجاة، وبر الأمان، أرشد إليهم المولى سبحانه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وحذَّر من مخالفتهم واتِّباع غيرهم والزهد بهم فضلًا على السخرية بهم أو التندر بأقوالهم ولمز آرائهم والتنقص من فتواهم، فهذا من علامات الضلال والبُعد عن الطريق المستقيم، فهذا طريق زلل، وحافة خطر ليس على الفرد ذاته بل على الأمة بأكملها إذا تنكبت طريقهم، كيف لا وقد زكاهم المولى سبحانه ورسوله ﷺ وسخر الله سبحانه الملائكة في السماء، والطيور في الهواء، والحيتان في الماء، لتستغفر لهم.
وحقٌّ للأمة أن تفتخر بوجودهم وبعلمهم وبأعمالهم، وحق لها أن تحزن لفقدهم لأن بذلك فتحًا لثلمة في جدار الإسلام والمسلمين وضرًّا للديار، ونقصًا في الأرض، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41]، قال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد: هو موت العلماء. ونَظَمَ الشاعر على هذا قوله:
الأرض تحيا إذا ما عـاش عـالمها كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها |
متى يَمُتْ علم فيها يَمُتْ طرف وإن أبى عاد في أكنافها التلف |
وبموت العلماء ينقص العلم ويكثر الجهل فيكون سببًا لضلال الناس، وبعدهم عن الحق عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَبقَ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا يستفتون فيفتونهم برأيهم فيَضِلون ويُضِلون». وقد رأينا شيئًا مما ذُكر في هذا الحديث في واقعنا المعاصر، حيث فقدت الأمة في سنواتها الأخيرة عددًا من أهل العلم الكبار الذين أفنوا أعمارهم في العلم والتعليم والإفتاء والقضاء والتوجيه والإرشاد وإبداء المواقف في الملمات، وتبيين الطريق في الأزمات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله جل وعلا، والتأليف في مختلف المجالات النافعة وغير ذلك مما كان له أبلغ الأثر والنفع لعامة الأمة.
أقول: قد رأينا شيئًا مما ذكر في الحديث السابق عندما فقدنا هذه الكوكبة من تجرؤ كثيرين على الفتوى وهم ليسوا بأهل، وتصدر مجالات التوجيه، ناهيك عن الإسهاب في الكتابات الصحفية، والمشاركات الإعلامية من تجرؤٍ يندى له الجبين مما هو مخالف لأصول الدين، وقواعده الأساسية، -وليس هذا المقام مقام تمثيل وإسهاب – ولا أظن أيضًا هذا يخفى على كل متابع. وهذا بلا شك يُعظم المسؤولية ويكبرها على خلف أهل العلم وتلاميذهم الذين ورثوا ميراثهم العلمي.
ولأجل عِظَم هذه الأمانة أسجل نقاطًا نؤكد عليها عندما نتحدث عن موت عالم أو مجموعة علماء لعلَّها تكون إسهامًا إيجابيًّا بعيدًا عن مجرد الحزن والوقوف عنده والتحسر على الماضي.
ومن تلك النقاط:
رحم الله تعالى علماءنا وأسكنهم فسيح جنانه ورزقهم الفردوس الأعلى، وصحبة نبينا محمد ﷺ، ووفق علماءنا الأحياء وتلاميذهم لما يحب ويرضى ووحد كلمتهم وتوجهاتهم وجعلهم ذخرًا للعباد والبلاد وأعانهم على تحمل المسؤولية والقيام بها إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله على نبينا محمد.