لماذا نكثر الحديث في هذا الموضوع، موضوع العلم والعلماء؟
سؤال كبير يطرح نفسه، ويطرحه كثيرون بين وقت وآخر.
وتطرحه شرائح متعددة وتوجهات مختلفة.
ولكلٍّ وجهة هو موليها في هذا الطرح، والهدف الذي يريد التوصل إليه. كنت أعتقد أن الجواب بدهي، ولكننا في زمن الفتن قد نحتاج إلى الوقوف عند البديهيات، والتأمل فيها.
يقال: «وهي من مقولات هذا العصر»: يجب ألَّا نختلف على الثوابت، وهي مقولة صحيحة، لكن الخلاف يطول حول هذه الثوابت، ما هي؟ ومَن يحددها؟
أسئلة لا تنتهي، فكل سؤال يجر إلى سؤال آخر -ما دمنا في زمن الفتن-، وطبيعة الفتن حالة قلق لا ركود، واضطراب لا استقرار، ومن هنا ندرك -حال التأمل في القرآن الكريم وفي السُّنة النبوية- كثرة النصوص وتواترها وتضافرها حول بعض القضايا مع أن ظاهرها أنها من الثوابت والمسلمات والمعلوم من الدين بالضرورة ومن الأساسيات في التعلم لكل مسلم ومسلمة.
مثال ذلك: قضية: التوحيد -وهي من أعظم القضايا- وقضية: الشرك، وقضية: الدار الآخرة، الجنة والنار، وقضية التعبد لله سبحانه وتعالى في هذه الحياة، والتسليم له سبحانه وتعالى، وغيرها من القضايا.
ومن تلك القضايا المسلَّم بها، وهي من الثوابت والأصول: قضية بناء هذا الدين على العلم، وأنه افتتح بالعلم، ولا يتعبد الله تعالى إلا بالعلم الصحيح، ولا يغيب عن ذهن عاقل ضرورة العلم للحياة الدنيا والتطور والرُّقي فيها، والنماء والنتاج، ولا يمكن أن يتحصل على سعادة الآخرة إلا بالعلم. ومن هنا لا غرابة أن تتواتر النصوص القرآنية والنبوية في تجلية هذا المعنى العظيم بالرغم من وضوحه وجلائه، وعلو شأنه، ورفعة مكانته.
وبعظم هذا العلم يعظم العلماء، وبعلو منزلة العلم تعلو منزلة العلماء، وبقدر احترام العلم يحترم العلماء.
أظنها –كما أشرت– من البديهيات، ومن المسلمات، ومن الثوابت، لكننا في هذا العصر نحتاج في كثير من الأحيان إلى تأكيد بعض تلك المسلَّمات والبديهيات، فلكل عصر سماته ولو بالحاجة إلى توضيح الواضحات. وهنا نبدأ بالإجابة عن السؤال:
نقول هذا، ويقوله كل مسلم ومسلمة بكل اعتزاز وفخر، وبكل ثقة وطمأنينة، وبخاصة ونحن نعيش زمنًا يكثر غبشه، وبكثرة الأصوات التي تريد أن تمحوه وتزيله، ولكن مهما بُحَّ صوت هذا المتعالي وأعلاه فلن يؤثر عليه، وإن سولت له نفسه، أو زين له شيطانه سوء عمله فرآه حسنًا، فلا يضر الجبال رميها بالحصى.
وبعد ذلك نقول لهؤلاء وأولئك: إنَّ العلماء المقصودين ليسوا كل من ادعى العلم، إنما العلماء:
فليس من العلماء من يدعي العلم وعمله يخالف ذلك.
وليس من العلماء: من يتوارى خلف الأسماء المجهولة، أو لا يوضح من هو؟ ولا يعرف أين تلقَّى العلم، ولا من هم مشايخه؟ ثم يتحدث عن كبائر الأمور قبل صغارها.
وليس من العلماء من يكتب في صحيفة أو مجلة وكأنه يقول للناس: خذوا عني، ولم يُعرَف عنه طلب علم، وقد يتطاول قلمه على العلم والعلماء وكأنه المخلِّص للناس كلهم من أزماتهم.
وليس من العلماء من يتكلم ويعظ وعظًا عامًّا في فضائية أو غيرها ويحشر ضمن كلمته النصوص الضعيفة والموضوعة أحيانًا قبل الصحيحة، وقد يخبط في الفتوى ويتهم الآخرين الذين يخالفونه.
وليس من العلماء من يتعالم على الناس أو على أقرانه بمعرفة مسألة، أو كتاب، أو صلة بعالم، دون إطالة الجلوس عند العلماء، وحسن التكفي عنهم، والمواظبة والاستمرار.
وليس من العلماء من يتخصص بعلم من العلوم الدنيوية دون أن يكون له باع في العلوم الشرعية المتبحر فيها.
إنَّ العلماء المعتبرين هم من سبق ذكرهم وسماتهم وصفاتهم، هؤلاء العلماء هم من يجب أن يُقْدَروا قدرهم، ونعرف منزلتهم بما يلي:
هذا كله لا يجرِّئُ شخصًا بأن يقول: ما هذه القداسة التي أُعطيت لهم وكأنهم معصومون عن الخطأ والزلل؟! نعم ليسوا معصومين فيصيبون ويخطئون، ولكن الغالب الصواب، وفي حال اجتماعهم هم إلى الصواب أقرب.
ولكنها أيضًا المكانة التي بوأهم الله تعالى إياها، وأمر سبحانه بكل ذلك، واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، قال ابن القيم رحمه الله: «وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم». وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]. قال المحققون من أهل العلم: أولو الأمر: الأمراء والعلماء. وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]. ولنستمع إلى منهج السلف الصالح في النظرة إلى علمائهم وموقفهم، منهم:
متى يصل العطاش إلى ارتواء وإن تَرَفُع الوضعاء يوما |
إذا استقت البحار من الركايا على الرفعاء من إحدى الرزايا |
|
إذا استوت الأسافل والأعالي
|
فقد طابت منادمة الـمنـايا
|
إنَّ أمتنا أمة العلم الشرعي الذي يقود إلى الرُّقي والتقدم، والعزة والمنعة، والسؤدد في الدنيا، وإلى السعادة في الآخرة فما بال أقوام كثر تجرؤهم على العلم نفسه، وزاد تجرؤهم على العلماء بذواتهم. وانساح مداد أقلامهم ليسطر ما يلمزون به علماءهم وتعدوا التلميح إلى التصريح.
فماذا يريدون؟! وما هدفهم؟! وأي ساحل يريدون الرسو عليه؟! وماذا أملت عليهم عقولهم ليتكلموا ويكتبوا في شخصية فلان من العلماء أو علان؟! وما مصلحتهم؟! وما مصلحة البلاد بإسقاط العلماء -زعموا- والتنقص منهم؟! هل يريدون الرقي لأنفسهم عندما يكثرون القدح بعلمائهم؟! تلك أسئلة ونحوها طرحتها على نفسي عندما اطلعت على عدد من الـمقالات وسمعت بعض الكلمات، لأجد فوائد عملية مما طرحه أولئك.
إنها دعوة قلبية حارة لكل طالب علم وكاتب ومفكر ومريد للإصلاح ذكرًا كان أو أنثى للمحافظة على الثوابت والأسس، قام عليها هذا الدين، وقامت عليها عزة هذه الأمة، وعلت بها مكانتها، وانتشر خيرها، وصلح بها العباد والبلاد. ودعوة أخرى أيضًا لعدم خلخلة هذه الثوابت والأصول قبل أن يندم الجميع ولات حين مندم.
إضاءة: قال ﷺ فيما رواه البخاري وغيره: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، وإنما بقبض العلماء، حتى إذا هلكوا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا فضَلُّوا وأضَلُّوا».
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وعصم الأقدام من الزلل والانحراف، ودلنا جميعًا على الحق والعمل به.
والله من وراء القصد.