الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ السُّنة النبوية هي كل ما أُثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية أو خَلقية، وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهي الترجمان والشارح للفرائض والأحكام العامة الواردة في كتاب الله تعالى، ومن أجل ذلك لا يمكن الاستغناء عن هذا المصدر لأنه يشكل الشطر الآخر لهذا الدين.
وقد تعرض هذا المصدر عبر تاريخه الطويل وإلى الوقت الحاضر لهجمات وطعنات من المتربصين لهذا الدين، سواء من المشركين وغير المسلمين أو من المنافقين الذين يحذون حذوهم في كل صغيرة وكبيرة، وتتمثل هذه التحديات والهجمات في مجملها في إثارة الشبهات حول صحة السنة النبوية، وصحة الأسانيد والرواة، وكذلك إثارة الشبهات حول شخص الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته العطرة من جميع جوانبها. من أجل ذلك كان على الأمة أن تعرف واجباتها نحو سنة نبيها عليه الصلاة والسلام وتقوم بدورها المنشود من أجل الحفاظ على نقاوتها وصفائها، ورد الشبهات والأباطيل عنها، ولعلَّ من أهم تلك الواجبات ما يلي:
إنَّ من أهمِّ الواجبات الملقاة على عاتق الأمة عامة وعلى أهل العلم خاصة العمل على نشر السنة النبوية الصحيحة بين الناس، وبيان صحيحها من سقيمها، وهو واجب شرعي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
فهي مصدر أساسي للتشريع الإسلامي، ونشرها يعني نشر الشطر الثاني من هذا الدين، والذي يشرح في كثير من الأحيان الخطوط العامة في كتاب الله تعالى، وأدوات النشر وآلياته كثيرة ومتعددة، لا سيما في هذا العصر الذي يشهد تطورًا تقنيًّا كبيرًا، الأمر الذي يسهِّل عملية إيصال السُّنة الصحيحة إلى الناس في جميع أنحاء العالم بزمن قياسي، ومن أهم هذه الأدوات:
كما يمكن نشر السُّنة عبر المحاضرات والندوات والمؤتمرات وغيرها.
من الواجبات الملقاة على عاتق المسلمين تجاه السُّنة النبوية دراستها وتذاكرها بين الناس، في داخل الأسرة وبين أفرادها، وفي خارجها بين أبناء المجتمع، وفق الوسائل والأدوات المتاحة، بحيث تتناول هذه الدراسة جميع ما يتعلق بحياة الرسول عليه الصلاة والسلام المتمثلة فيما يلي:
وذلك من خلال القرآن الكريم وكتب الحديث وكتب السيرة المتوافرة في المكتبة الإسلامية، مثل: السيرة النبوية لابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، وغيرها.
ومن الواجبات التي تقع على عاتق الأمة نحو السُّنة النبوية: العمل بما جاء في السُّنة النبوية وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من أحكام وتشريعات، امتثالًا لأمر الله تعالى: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى». وبذلك فإنَّ الادعاء في الأخذ بالقرآن وحده دون السُّنة ضرب من الكفر، وهدم لمعالم الدين، لأنَّ السُّنة النبوية مفسرة ومفصلة لكثير من الفرائض والأحكام الواردة في القرآن بصورة عامة، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها مما جاءت السُّنة مفصلة ومبينة له.
ويكفي هؤلاء القوم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه، ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه حلالًا فأحلوه، وما وجدتم فيه حرامًا فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله».
لقد تكفَّل الله تعالى بحفظ الدين؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وحفظ الدين يشمل حفظ القرآن وحفظ السُّنة من التبديل أو التحريف، ولكن هذا لا يُعفي المسلمين من واجب حماية الدين ومصادره واتخاذ الأسباب المناسبة لذلك، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم حين جمعوا القرآن في مصحف واحد، وكذلك أهل العلم من بعدهم في حفظ السُّنة وجمعها وتصنيفها من حيث القوة والضعف عن طريق الجرح والتعديل في المتون والأسانيد، وهذا يفرض علينا العمل المتواصل وبذل الجهود وتسخير الطاقات من أجل إيجاد آليات علمية حديثة لحفظ السُّنة النبوية من التحريف، وتقويض الهجمات المتتالية عليها من قِبَل أعدائها.
ويجب أن تُتَلقى السُّنة من مصادرها الأصلية وبتوجيه أهل العلم المختصين بها والموثوق بهم، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] وذلك من أجل أخذ الصحيح منها وترك الضعيف، وقد سخر الله تعالى كوكبة من العلماء في الماضي والحاضر لخدمة السُّنة النبوية في وضع القواعد والضوابط التي تحافظ على سلامة الحديث النبوي، فيما يتعلق بالإسناد وطرقه ومعرفة الرواة ووضع قواعد الجرح والتعديل من أجل الثقة، وهكذا.
كل ذلك من أجل الحِفاظ على السُّنة من التحريف، وقد ألَّف هؤلاء العلماء مئات الكتب التي تُعنى بالسُّنة النبوية حتى صارت علمًا مستقلًّا بذاته، وأنشأت لها مراكز علمية متخصصة وكلِّيات ومعاهد في أنحاء مختلفة من العالم. وأسأل الله تعالى أن يرزقنا شرف خدمة سُنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وشرف الدفاع عنها بالقول والعمل، وصلَّى الله وسلَّم على ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.