صناعة المستقبل في القرآن والسُّنة

سؤال غاية في الأهمية: لماذا؟

لأنَّ الماضي انتهى، وبقي محلًّا للعبرة والعظة، واستلهام الدروس، والإفادة من التجربة؛ ولأنَّ الحاضر محل العمل لما سبق التخطيط له، ولما يفرضه الواقع، ويبقى الأمل فيما يعلقه الفرد، أو المؤسسة في المستقبل لتحقيق طموح، وبلوغ غاية، ومعالجة مشكلة، وتجاوز عقبة. وبناءً على ذلك تتأكد صناعته للمستقبل بشيء من الاحتراف والدقة والنظر في العوامل المؤدية إلى ذلك. ولتقرير ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8].

والمبدأ نفسه تقرره السُّنة النبوية، فالنبي  كان يعمل بهذا المبدأ في جميع شؤون حياته، وفي مختلف المجالات، ويبرز ذلك بوضوح في المواسم، فهو يبشر بها للاستعداد والعمل، كما هو معلوم في استقبال رمضان المبارك، وأشهر الحج، والأعمال التي تعمل فيها، وغيرها.

كل هذا يُستوحَى من النظر بعين البصيرة، وبالتخطيط للمستقبل باستثماره، وفيما يعود بالخير والفائدة على النفس والأسرة والمجتمع. فكل ذلك يدل على أن صناعة المستقبل مبدأ شرعي، وضرورة حياتية وحاجة حتمية لجودة المنتج، وحسن نوعيته، وعمق أثره، والسؤال الذي يَرِدُ الآن: هل صناعة المستقبل تكون دنيويًّا أو أخرويًّا؟ وهل هي خاصة للفرد فحسب، أو للمؤسسات والمجتمع بعامة؟

ولعلَّ من بدهيات القول أنَّ النظر لكل مستقبل هل يَكونُ دنيويًّا أو أخرويًّا، ولكن نظرة الإسلام، وما علمتنا السُّنة النبوية أنه لا فصل بينهما، فمتى حاول المرء صناعة مستقبله الدنيوي المشروع يندرج تحته ما يصنعه لآخرته؛ لأن الدنيا مزرعة للآخرة فهما لا تنفصلان، ولذلك يَرِدان جميعًا في القرآن سواء في العمل والنتيجة، وهكذا كانت حياة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97]، فلينظر القارئ الكريم في هذه الآية: 

فالربط بينهما واضح. كما أن النظر إلى الآخرة: النظر المجرد لا يمنع من الاستمتاع بالدنيا، يقول تعالى في قصة قارون: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[القصص: 77]، فربط سبحانه بين:

هذان الهدفان ثمرة للإحسان في الدين، وعدم الفساد والإفساد في الأرض. هكذا يصنع المستقبل ويصاغ. وهكذا الخط العريض لكل مسلم يريد صناعة المستقبل، ويبقى أن يصوغ كل مسلم برامجه في ضوء هذا الخط العريض وهكذا كان عليه الصلاة والسلام مع نفسه، وأهله، وأسرته متمثلًا قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم: 6]. وبهذه الصناعة يقي المرء نفسه وأسرته من النار، وهي من أعظم صيغ صناعة المستقبل.

فيجب أن تسير وفق خطوط متوازية تنطلق من منطلق واحد، لتصل إلى نتيجة واحدة تنعكس على الجميع. وبالمثال يتضح المقال: فالأب يعمل بخطوط متوازية، فهو في الوظيفة يؤدي وظيفته الواجبة في المجتمع، حريص على إتقانها، فهو هنا عمل لدنياه، وهو مأجور في آخرته.

وفي الوقت نفسه يعمل موجهًا ومربِّيًا لأسرته، ويجد ويجتهد في كسب العيش لهم، ومن ثم تربيتهم ليكونوا عناصر صالحة. فهو عمل لسعادته وسعادتهم في الدنيا، وهنا يضاعف له الأجر في آخرته كما استمتع بدنياه أيضًا وهو عامل لنفسه في عبادته مع ربه يقوم بالتكاليف الواجبة عليه، مؤديًا لها بإتقان، فأسعد نفسه بها وهي الرصيد العظيم له في الآخرة.

وهكذا في كل ما يقوم به، ومثل هذا يمارس صناعة المستقبل إذا ما جعل تلك المهمات يكمل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا غير منفصلة في أجزاء متناثرة، فإذا قام بهذه الأعمال مخططًا لها، وفق رؤية متكاملة مترابطة فقد أجاد صناعة مستقبله، ولعلَّ من المفيد في ختام هذه المقالة القصيرة أن تكون إجابة عن سؤال مهم: وهو: ما الأدوات المعينة للنظر في المستقبل؟ ويمكن تلخيصها فيما يلي، والإشارة تغنى عن العبارة:

إنَّ مريد صناعة المستقبل إذا جمع هذه العوامل سيصل إلى النتيجة الواضحة لمستقبل مشرق، ويرضى عنه خالقه ثم يُرضي نفسه، وأسرته ومجتمعه. ولعلَّ من المناسب أن أشير هنا إلى بعض مواطن العلل والخلل في أساليب حياتنا تجاه النظر إلى المستقبل وصناعته بحق، ومن ذلك:

  1. عدم النظر إلى المستقبل أصلًا، ويندرج تحت ذلك عدم وجود هدف يسعى له الفرد أو المؤسسة، وهذا في عمق الخطأ، إذ ينبني على ذلك عدد من السلبيات من أهمها: ضياع حياته، وملله، وسأمه، وضيقه، وتأخره، إلخ، وهذه من آفات العصر التي تحتاج إلى استفاضة في الحديث عنها.
  2. النظر للمستقبل بكليته وتضخيمه حتى يصل إلى نوع من الخيال يبعد تحقيقه، وهذا عند من يتقعر ويبالغ ويبعد عن الواقعية في حساباته، ومن شأن هذا عدم تحقيق أهدافه الخيالية، وإصابته بردود أفعال متتالية.
  3. الفوضوية في الحياة وعدم ترتيبها، وقد علمنا الإسلام أهمية الوقت وترتيبه من خلال العبادات، فالفوضوية من الآفات الكبيرة التي تقضي على كل مشروع طموح، أو آمال واقعية، ومن ثمَّ تضعف النتائج الإيجابية.
  4. عدم الاستفادة من النقاط الإيجابية عند الإنسان نفسه. ومن ذلك القدرات التي منحه الله تعالى إياها، فيضيعها سُدًى، ولم يعلم هذا الإنسان كم أودع الله تعالى فيه من قدرة يمكن أن يفيد نفسه وغيره فيها لكن فرَّط فيها وأهدرها.
  5. عدم الاستفادة من الإمكانات المتاحة وبخاصة في مثل هذه البلاد التي حباها الله تعالى بكثير من الإمكانات، ومنها وجود دور العلم والمعرفة، وعدد كبير من العلماء، والتمسك بالمعتقدات والقيم، وغيرها وهذا من مواضع الخلل الكبيرة.

وبناءً على تلك الإشارات السابقة على المسلم الجاد، ذكرًا كان أو أنثى أن يبدأ خطوته الأولى، ويعد العدة الشاملة والإعداد العلمي، والتخطيطي، من غير تكلف ولا شطط، ومثله كل مؤسسة، وسيجد الجميع بإذن الله مستقبلًا يفوح بالفأل، والنتائج الإيجابية، في الدنيا والآخرة وإلى مستقبل باسم لكل محاول لصناعته صناعة إيجابية.

حقق الله الآمال وسدد الخطى.

وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.