يتحدث كثير من الناس على مختلف مستوياتهم العلمية، وتوجهاتهم الفكرية، ومناهجهم السلوكية، أو حتى آرائهم العقدية، ومذاهبهم، ومللهم عن غزة وأهلها، وما أصابهم من تسلط اليهود وأعوانهم: التسلط العسكري، وما أصابهم من الخذلان من بني جلدتهم، وكذا الحديث عن مقاومتهم، وصبرهم، وتحملهم، ومعاناتهم، ونكاياتهم باليهود، وتنشأ أسئلة كثيرة عن هذا الاعتداء الهمجي العشوائي، وكثير منها محيِّر لكثير من ذوي الألباب، وتزداد الحيرة عندما تأتي الأسئلة التي تمس الواقع العملي:
ما دوافع هذا الغزو؟ وما الذي يهدف إليه؟ وهل حقَّق شيئًا من أهدافه؟ وما أبعاده؟ وما الذي ينبني عليه بعده؟ وهل هو غزو ديني أو هو حرب على طائفة أو فرقة؟ ومن المنتصر وكلٌ يدعي النصر؟ وما موقفنا وقد وضعت الحرب أوزارها وبدأت المناورات الكلامية وإملاءات الشروط؟ وهل فعلًا يهود اليوم بفعلهم هذا هم يهود الأمس الذين قتلوا كثيرًا من الأنبياء؟ وحاولوا قتل نبي الله عيسى عَلَيْهِ السَّلَام فرفعه الله تعالى إليه وحاولوا مرارًا قتل نبينا محمد ﷺ بشكل مباشر وبشكل غير مباشر ونقضوا العهود معه مرارًا وتحالفوا مع المشركين وشجعوا المنافقين؟ وهل هم الذين خططوا لقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي اللَّهُ عَنْهُ وقتلوه بتدبيرهم وقتلوا الخليفة علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عَنْهُ بتدبيرهم كذلك؟ وهل هم الذين يعتقدون أنهم خيرة الشعوب، وأن غيرهم لا يجوز إلا أن يكون خدمًا لهم؟ وهل هم الذين تحالفوا مع بريطانيا وغيرها، حتى تمكنوا من سكنى فلسطين، واغتصبوا أرضها، وقتلوا كثيرًا من أهلها؟ ودمروا كثيرًا من مكتباتها؟ وهل هم بالتالي في حربهم هذه يحاربون حزبًا، أو طائفة، أو نوعية من الناس فدمروا مساجد، ومستشفيات، وجامعات، ومدارس، ومصادر للطاقة، وكثيرًا من الطرقات، والبيوت، ومنعوا الغذاء والدواء، وقتلوا الأطفال، والنساء، والشيوخ؟
وإن كانوا يهود الأمس فما بال أفراد من المسلمين يشجعونهم ضمنا، وذلك بالقدح والتثريب على إخوانهم المستضعفين في فلسطين؟ هل وصل بهم الحال إلى أنهم لا يفقهون حقيقة اليهود، وأنهم اليوم على غزة وغدًا بمكان آخر، فمخططاتهم المكشوفة لم تصل إلى هؤلاء؟ وهل لا يستحق الفلسطينيون عند هؤلاء شيئًا من التعاطف بما يسمى التعاطف الإنساني؟ ألا يظنون -وهم مسلمون بلا شك- أنَّ ديننا يعطف على الحيوان بل يدخل الله تعالى بسبب الإحسان إليه الجنة ويحرم من النار ويستحق صاحب الإيذاء النار كما في حديث المرأة التي سقت الكلب فدخلت الجنة وحديث المرأة التي حبست الهرة فدخلت النار؟ وهل يجهل هؤلاء هذه المعاني في ديننا العظيم؟ ومن آخر الأسئلة الآن: من المنتصر؟ وهل للنصر صورة واحدة، أم صور متعددة؟ وما العمل بعد هذه الحرب؟
هذه نماذج من الأسئلة، وغيرها كثير، أفرزها هذا العدوان الوحشي على غزة، ورآها العالم كله على الهواء مباشرة في ليله ونهاره، والأطفال قبل الكبار، والشعوب قبل الساسة، ولن يتوقف سيل الأسئلة، ولو بعد وقوف الحرب، فلها إفرازاتها، وتداعياتها التي لن تكون نهايتها وقف إطلاق النار، أعان الله أهل فلسطين خاصة، والمسلمين بعامة. إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها، تتطلب النظر والتأمل من عدة زوايا، من أهمها تحديد المنطلقات التي من خلالها تتم الإجابة، ومن أهمها:
هذا المنطلق الذي بيَّنه ربنا جل وعلا في كتابه الكريم، فليس النظر مبنيًّا على مجرد رأي فردي من زاوية ضيقة، أو مصلحية نفعية يعتقدها، وليس مبنيًّا كذلك على صوت قوي أثر في رؤيته وأحكامه. وعند التأمل في كتاب الله ﷻ، نجد قضايا مسلَّمة يقينية، من الخطأ الفادح إغفالها، أو تناسيها عند اتخاذ موقف، أو إجابة عن سؤال، وذلك مثل:
وغير ذلك من المسلَّمات المذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217].
ومن المنطلقات الشرعية:
أن لله سبحانه وتعالى حكم في بقاء الصراع بين الحق والباطل؛ بمعنى أنه مهما حاول المسلمون استرضاء اليهود، فلن يبقى الأمر على هذه الحال، وتاريخ اليهود والعرب حافل بتصديق هذا المنطلق الكبير، نعم: لا يعني عدم المهادنة، أو المعاهدة على قضية بعينها، لكن هذه المعاهدات يجب ألا تُنسِيَ هذه السُّنة الربانية. وبمعنى آخر: يجب على أهل الحق أن يوقنوا بحقهم، ويعملوا لنصرته بجميع الوسائل الممكنة، بل وينشروا هذا الحق ويهدوه للبشرية جمعاء، والمتمثل في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وهذا يوضح بجلاء عظم الخلط، وشدة المفارقة بين اعتقاد مسالمة اليهود، والغفلة عن العمل للحق.
إننا ملزمون بالعمل وفق كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله ﷺ، والتعمق في النظر في سيرته.
ابتداءً بتاريخ بني إسرائيل مع الأنبياء والمرسلين ومرورًا بموقفهم من نبينا محمد ﷺ إلى تاريخهم المعاصر، ومن المسلمات في ذلك:
هذه وأمثالها مما يعرفه المسلم الذي يتأمل القرآن الكريم، وشيئًا من سيرة النبي ﷺ مما لا مجال لتفصيله أكثر هنا.
هذه لا تحتاج إلى بيان كثير، فمن المسلَّمات أن دراسة نفسية أي خصم تساعد في بيان كيفية التعامل معه.
والدراسات أكثر من أن تحصى في الإجماع على معرفة نفسية اليهود، مما بيَّنه الله تعالى في القرآن الكريم، ومن ذلكـ:
وغيرها مما يتعلق بنفسية هؤلاء اليهود، والتي ينطلقون منها لتحقيق مآربهم وأهدافهم.
وهذه من أعظم المنطلقات التي تعين المسلمين جميعًا لتحديد مواقفهم من الأحداث، وصياغة المنهج الذي يتعاملون به في وقت الحدث، وبعده، بل وقبله، وأسرد نماذج لهذه السُّنن العظيمة:
هذه جملة من السنن العظيمة التي يعين استصحابها حال الإجابة على الأسئلة؛ لكي تكون أجوبة مطمئنة مبرئة للذمة بعيدة عن الشطط وتحكم العواطف والانسياق وراء صوت قوي أو جلبة إعلامية أو رؤى نفعية.
من المعلوم أنَّ من مقاصد الشريعة جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، كما قرَّر ذلك أئمة الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما -رحم الله الجميع-، وكما هو مستند إلى أدلة من القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، ويندرج تحت هذه القاعدة قواعد فرعية أخرى، مثل: نفي الضرر، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ودفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما، وغير ذلك من القواعد المؤثرة في تنزيلها على الواقع.
والكلام في هذه القواعد يطول، لكن المقصود هنا: استصحاب هذه القواعد وأمثالها؛ لاتخاذ مواقف محددة في هذا الحدث وأمثاله، وأن الذي يستصحبها وينزلها على الواقع هم العارفون بها وبالواقع.
أظنُّ أنَّ هذا المنطلق لا يحتاج إلى تعليق، فيوجب على غير العارفين عدم إطلاق الأحكام، والتعليقات، وغيرها.
وأكتفي بذكر هذه المنطلقات التي تتأكد في حق من يتبنى موقفًا ليتعامل به، وبخاصة من يكون محلًّا للاتباع.
وبناءً على ما سبق في المنطلقات لاتخاذ موقف محدد، واستلهام الدروس المستقبلية، أذكر جملة من الأمور التي تجيب عن الأسئلة السابقة، لعلها تكون إضافة، مع سائر ما ذكره أهل العلم والرأي في مثل هذه الأحداث، تنير دربًا، وتحدد مسلكًا، وتجلب مصلحة، وتدرأ شرًّا.
إن ما حصل في غزة لا يشك مسلم أنه اعتداء عسكري على الإسلام والمسلمين من قِبَل اليهود، وإن لبس لبوسًا آخر.
فليست حربًا طائفية، أو على فرقة، أو على حزب، فكل الأحزاب والفرق الموجودة في غزة، وأشخاصها، لم يوجدوا إلا متأخرين، ومذابح اليهود في سلسلة متواصلة منذ وعد بلفور، مرورًا بعام 48 و67 و73 وغيرها، وهو ما أصبح ثقافة منشورة.
إنَّ حصر هذا الغزو ضد جهة معينة محاولة لإبعاد أفعالهم عن واقعها الحقيقي، أحسب أن هذه حقيقة، فمن غير الحصافة إغفالها لمن يعرف حقيقة اليهود، وتاريخهم الأسود.
إنَّ عداوة اليهود مستمرة، وفي هذه البقعة بالذات «فلسطين»، كذا أخبرنا النبي ﷺ، بل أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، كما أخبرنا الله جل وعلا في القرآن الكريم.
وبناءً على ذلك: من المهم أن نعي هذه الحقيقة، ونجدد وعيها للأجيال، ومقتضى هذا الوعي أن يُبنى التعامل معهم وفق المستلهم من القرآن الكريم الذي قرر هذه العداوة، ووفق تعامل النبي ﷺ، وعليه: فتقديم التنازلات غير المحدودة مع اليهود على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات، والدول المسلمة، محل نظر، يحسن التأمل فيه والمراجعة.
ومما يبنى على ما ذكر: ضرورة الوعي بسمات اليهود، وصفاتهم، وتعاملهم، من خلال النصوص القرآنية والنبوية، ومن خلال تاريخهم قبل نبوة محمد ﷺ، وفيما بعد بعثته ﷺ، وفي تاريخهم المعاصر.
إنَّ الوعي بهذه السمات وتأملها يبعد الغبش الحاصل عند كثير من الذين ينظرون من خلال مصلحة ضيقة، أو حالة خاصة، أو عاطفة جياشة، تلغي المصالح والمفاسد.
وعليه يجب على أهل العلم والرأي والفكر والتربية توضيح هذه المفاهيم الكبرى.
وهذا لا يعني إلغاء التعامل معهم، والمعاهدات، والمناورات، بل يضفي شيئًا من إنارة الدرب، والذي يقدر هذه الأمور هم أهل الرأي، والحل، والعقد، ويخضع للنظرات العليا في المصالح الكلية، والجزئية، والمفاسد العامة، والخاصة. ويستلهم ذلك من أحوال النبي ﷺ في تعامله معهم، فعقد العقود، وأخذ العهود في بعض الأحوال، وتعامل بالقوة في بعض الأحوال.
ويبقى الأمر المهم في هذه المسألة: من الذي يقدر النظر في هذه القضية الحساسة المفصلية؟
سؤال في غاية الأهمية والجواب الإجمالي أن نقول كالعادة: أهل العلم والولاية، كلٌّ فيما يخصه، ولكن نقول بشيء من التفصيل: إنَّ أهل الشأن في فلسطين من ولاة، وعلماء، وأهل فكر، ورأي، هم في المقدمة، فهم أهل الميدان، والأعلم بحال القوم.
ومن هنا ندعوهم لأن يتحدوا، ويجمعوا كلمتهم، ويوحدوا صفهم، ويتركوا التشنج والخلاف القومي، ويراعوا المصالح الكبرى، وإن كانت على حساب مصالح جزئية أخرى فالعدو لا يفرق.
ولعلَّنا هنا نشيد بمواقف جميع الفصائل، باتخاذ الموقف عندما حدث هذا الاعتداء.
ومما ينبغي أن يُعلم أن هناك دولًا وشعوبًا مجاورة، لها حق في القضية، فأهل العلم، والرأي، والولاية، هم من يحددون المواقف، من خلال ما سبق في القضايا الشرعية، والمصلحية الكبرى.
ولذا ندعو هؤلاء أيضًا إلى ضرورة الاهتمام بالقضية، والتنسيق الفعلي مع جميع الأطراف من أهل فلسطين، وليس لطرف دون آخر.
أدرك تمامًا عِظَم القضية، ودقتها، وتعقيدها، ولذا أقول هنا:
إنَّ التأمل في بعض ما جرى في الحدث نفسه، سواء من أهل فلسطين في قلب الحدث، أو من سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، تجلَّى فيه معانٍ عقدية غاية في الأهمية، من الضروري استمرارها، وإحياؤها في النفوس، وتجديدها على أرض الواقع، ومنها:
الحدث كله قضاء وقدر من الله تعالى، ابتلى به مباشرة أهل غزة، وابتلى به غيرهم بشكل غير مباشر.
و«القضاء والقدر» ركن من أركان الإيمان، لا يتم إيمان العبد إلا به، كما في حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلَام عندما سأل النبي ﷺ عن الإيمان، فأجابه بأركان الإيمان، ومنها: «أن تؤمن بالقضاء والقدر».
إنَّ استشعار هذا الركن وإحياءه في النفوس يورث قوة الثقة بالله تعالى، وعمق الطمأنينة، والدافع المعنوي، بأن ما حصل لحكمة يريدها الله تعالى، فيعلي به أقوامًا، ويذل به آخرين.
كما أنَّ استشعار هذا الركن العظيم يورث قيمة من أعظم القيم، وهي قوة الصبر والتحمل، الذي هو من أقوى عوامل الفوز والنجاح. ومن هنا: يؤكد على إحياء هذا الركن العظيم في النفوس، وبثه بين الناس.
في الحدث تجلَّى معنًى عقدي عظيم، وهو اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، فتخاذل الدول الكبرى، والتباطؤ المشين منهم، والحيرة في البداية لدى كثير من الدول العربية والإسلامية، والعدو يضرب الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة، ويدمر البيوت والمستشفيات، ودور التعليم، وغير ذلك، كل هذا جعل أولئك الذين تحت القصف والدمار، والآخرين الذين لا حول لهم ولا قوة، يدركون تمامًا أنه لا نافع إلا الله تعالى، ولا مدبر إلا هو، فيقوى عندهم هذا التوكل العظيم.
وعليه فمن الخير العظيم أن نحيي هذا المعنى في جميع شؤون حياتنا، وفي المدلهمات بخاصة.
ومن المعاني العقدية التي ظهرت بوضوح معرفة كثيرين أهمية دعاء الله تعالى ومسألته، فهو السلاح الأكبر، والنافذ بقوة، والله ﷻ قد تكفل بإجابة الدعاء، ويحب ﷻ إلحاح الملحين، وكم يؤسف العاقل أن يسمع كلمات من هنا وهناك، تهمش شأن الدعاء، وهذا أمر عجب، ألا يعلم هؤلاء أن النبي ﷺ أمضى ليلة بدر كلها بالدعاء حتى سقط رداؤه ﷺ وأشفق عليه صاحبه أبو بكر الصديق رضي اللَّهُ عَنْهُ.
كم نحن بحاجة إلى إحياء هذا المعنى، وبخاصة التذكير بما يتعلق بأهمية الدعاء وشروط الإجابة، وموانعها!
إنَّ الناظر في مجتمعات المسلمين يعصره الأسى وهو يرى موانع الإجابة، وبخاصة المعاصي، ومن أشدها: التعامل بالمحرمات، كالتعامل بالربا، فالله عَزَّ وَجَلَّ طيب لا يقبل إلا طيبا، كما أخبر النبي ﷺ .
وكم يسعد المرء في هذه القضية وهو يرى الأطفال قبل الكبار يرفعون أيديهم للدعاء على اليهود؟! لا شكَّ أنَّ ذلك علامة توفيق، نأمل أن يُعلى قدرها، ويواصل في الاستمرار فيها.
ومن المعاني العقدية التي أظهرها هذا الاعتداء الوحشي التفاؤل، وحسن الظن بالله تعالى، وكما قيل في المعنى السابق يقال هنا، فمع شدة القصف، وتعطل جميع المقدرات، يبرز هذا المعنى الدقيق، وهو الاستبشار بما وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنصر، بمفهومه الشامل، الذي يجب أن يتعلمه المسلم كما سبق في المنطلقات.
وهذا يتم من خلال النظر في المكتسبات، والخسائر من الأطراف المعنية، ومن خلال النظر في المستقبل في ضوء المعطيات العامة.
إنَّ إحياء التفاؤل، وحسن الظن بالله تعالى، يبعث في النفس الطمأنينة، والسكينة، والقوة المعنوية للاستمرار نحو العلو في جميع الأمور، وبالاستمرار في المقاومة الحقة في هذه القضية المصيرية.
يبقى أن يُؤكد على معنًى دقيق في أثناء الكلام عن التفاؤل، والاستبشار، وهو أن هذا التفاؤل ينبغي أن يكون مبنيًّا على معطيات واضحة نظرية وتطبيقية، وليس مبنيًّا على مجرد استبشار، وذلك بناء على منطلق العمل بالأسباب، وألا يؤدي هذا التفاؤل إلى التحليق في أفق الخيال، فيعيش الناس في خيال مستمر، علينا تفعيل التوازن البعيد عن اليأس والقنوط، وعدم العيش في خيال مُقعِد عن العمل.
ومن المعاني العقدية أيضا تجلَّي مفهوم الولاء لله سبحانه وتعالى ولدينه ولعباده المؤمنين، والبراء من الكفر وأهله، ولا شكَّ أن مما يتعيَّن على أهل العلم بيان التفصيل في هذا المعنى الكبير بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ حتى لا تزل به الأفهام.
ومما أكده هذا الحدث الضخم إبراز صورة الصراع بين الحق والباطل، إبرازا يبعد الشك في أي من مقرراته، أو تلبيسه بأي لبوس يبعد جوهره، إنَّ إبراز هذه الحقيقة يجعل أهل الحق، وأهل الرشد والرأي بخاصة يكرسون العمل الجاد بالعمل بالحق، ونشره، والسعي للتمسك به، والدفاع عنه، وعمل البرامج العلمية لترسيخه، وتجذيره، وأخص هنا البرامج التربوية العلمية، ومنها:
وبناءً على هذا المعلم الكبير نؤسس برامج:
هكذا نوحد مسارنا المبني على أصول ومنطلقات ثابتة، وتسد كثيرًا من الفجوات التي ظهرت بين أبناء ملتنا في هذه الحرب.
من المؤمل جدًّا ألا نطفئ جذوة انفعالاتنا تجاه هذه الحرب العاتية، بتبجيل ذواتنا بالنصر، دون أن يصحب ذلك برامج عملية مستقبلية، مبنية على العلم الحق من مصادره الحقة.
إن إدراك سنة الصراع: يضفي على المؤمن العاقل بحق قدرًا كبيرًا من الطمأنينة والرضا، وفي الوقت نفسه يعطى دافعًا قويًّا للاستمرار في الأعمال العلمية، والتربوية، والدعوية، المتضمنة لنشر الخير، ونفع البلاد والعباد، وهكذا كانت سيرة النبي ﷺ ، فقد كان على هذا العهد ﷺ، رغم شدة المواقف في حياته كلها، ابتداء من ولادته يتيمًا، مرورًا بشظف العيش، وببعثته ﷺ وتحدي قومه له، وعمل المعوقات ضده، إلى غير ذلك مما واجهه ﷺ، ومع هذا كله كان يتمتع ﷺ بقدر كبير جدًّا من الرضا الباعث على العمل، ولم يقعد عن العمل لحظة من اللحظات، حتى في عام الحزن، وفي أحلك الظروف في مثل غزوة الأحزاب.
إنَّ مجرد الاستمرار في الأعمال هو ثمرة من أهم الثمرات التي تخلفها مثل هذه الأحداث الكبار، كما أنَّ إدراك سنة الصراع الدائمة يؤكد على أمر في غاية الأهمية، وهو ضرورة التثبت، وعدم الاستعجال، في الآراء، والتحليلات، ونقل الأخبار، والنصوص، والفتاوى الفردية، والانفعال تجاه موقف.
آمل أن لا يقول قائل: إنَّ إشاعة هذا المبدأ -التثبت- شعار يبعثه القاعدون المتكاسلون، فهذا القول وأمثاله مما أظنه من تلبيس الشيطان؛ لأنه هكذا يلغى من نفوس أهل الطاعة المعاني العظيمة، التي نحن بحاجة إلى أن نجعلها عناصر مهمة في تعاملنا مع برامجنا المستقبلية، وكما نقول عن ضرورة الاستمرار في الأعمال المبنية على العلم، فنقول أيضًا أن يبنى هذا الاستمرار على قدر كبير من الرؤية وعدم الاستعجال.
وإدراك هذه السُّنة من سُنن الله تعالى، يبعث في النفس عدم الضيق والحنق من وجود الباطل، فليعلم أنه موجود منذ أن عاند إبليس بعدم الاستجابة لأمر الله تعالى في السجود لآدم إلى يوم القيامة، ويدرك المؤمن أنه مع عدم الضيق يجب أن يعلم أن مهمته العمل للحق، وليس مجرد القضاء على الباطل، وإنما إبلاغ الحق للناس، قال سبحانه وتعالى: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2] وقال عَزَّ وَجَلَّ : ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48].
ومن مقررات هذا التصور الدقيق أن يسرى هذا على جميع برامج مغالبة الحق للباطل.
إنَّ المؤمن الحصيف عليه أن يستشعر كل هذه المقررات؛ ليتخذ منهجه الخاص، وبرامجه الخاصة والعامة في ذلك.
ومن أهمِّ معالم هذا المنهج البعد عن التضييق على النفس، أو على المجتمع حال تصوره غلبة الباطل، وإنما النظر بعين البصيرة لمنهاجه الحق، ومما يبرز –على مدار التاريخ– في الأحداث العظام انشطار الناس إلى أقسام متفرقة، وعلى رأس هذه الأقسام قسم يتربص بالناس الدوائر، فقد برزوا في عهد النبي ﷺ في أحلك الظروف، وبخاصة في الغزوات، كما في غزوة أحد، كما قص الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك علينا في القرآن الكريم، فبسبب هؤلاء المنافقين رجع ثلث الجيش للشُّبَه التي ذكروها، بأنَّ المدينة خلت من الرجال، ونخشى على البيوت والنساء، وإن يعجب الناس من مقالة هؤلاء في هذه الأحداث، فالعجب يشتد مع من كان مع رسول الله ﷺ، ويعلم أن الله تعالى سيفضحهم، لكنها حكمة الله سبحانه وتعالى، فهل نعجب بعد ذلك بمن يضع اللائمة على الفلسطينيين أو سكان غزة أو حزب معين؟ وكأن اليهود حمل وديع، مسالم، حبيب إلى النفوس، لا يعادون أحدًا، ولا يظلمون، ولا يقتلون ولا ينقضون عهدًا ولا ميثاقًا، وأنهم أصحاب صدق وتعامل حسن!! ويصب جام غضبه ومداد قلمه على أبناء ملته؛ لأنهم ارتكبوا فيما يظنه خطأ.
لكن يبقى النظر في الموقف من حال هؤلاء المرجفين، ويمكن هنا تلخيص بعض النقاط بشكل موجز:
ومما ظهر في الآونة الأخيرة جليًّا أكثر من غيره في الأحداث المعاصرة، التعاطف الشعبي الكبير في أرجاء المعمورة لما شاهدوه من الاعتداءات الظالمة، والقتل والتدمير، حتى من بعض الشعوب غير المسلمة. وهذا يدل على ما يلي:
وهذا يتطلب من أهل الولاية والعلم والفكر استثمار هذه العواطف الجياشة، ووضعها في مسارها الصحيح، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، ويستغل ذلك من لا يحسن، أو حتى مغرض أو صاحب هوًى، أو مصلحة، فيوقع الناس في مسارات غير سليمة.
من الاستثمار الإيجابي المبادرات التوجيهية السليمة، وربط المواقف بالأدلة الشرعية، وإحياء المرجعية العلمية، والصدور عنها، وعدم التعصب لرأي دون آخر، وينبني على ذلك أن تجتهد المؤسسات العلمية بمختلف تخصصاتها بوضع البرامج المناسبة لذلك.
ومن الوقفات التي تسترعي الانتباه إحياء المسؤولية الإعلامية بمختلف وسائل الإعلام، والتي قد انشطرت في هذا الحدث إلى شطرين، شطر وعى مسؤوليته فأبدى جهده لتصوير الحدث، ونقله للعالم، والتعليق عليه، وشطر نظر إليه من منظار آخر يحز في النفس، كأنه لا يعنيه، بل استمر في برامجه التي لا تتفق مع الدين، ولا حتى مع مشاعر هذه الأمة التي آلمها الحدث، فانكشف في ذلك غطاءات، وتبين ما تبين مما كان مغبشًا على كثيرين.
وهذا يتطلب ما يلي:
ومما يلفت النظر في الأحداث تلك الإبداعات المتفرقة من هنا وهناك: برامج طلابية، ومناشط إنترنت، وغيرها مما يثلج الصدر، ويبهج الخاطر، وهذا من شأنه أن يدفع أصحاب المواهب، والقدرات، والتميز، والإبداعات، إلى أن يسهموا في كل ما من شأنه نفعهم، ونفع أسرهم، ومجتمعاتهم، وأوطانهم، وأمتهم، بمختلف الوسائل السلمية الممكنة، ولو كانت قليلة، فأثرها عند الله تعالى عظيم، ولا تقتصر تلك الإبداعات على هذا الحدث، بل الاستمرار، فالكون كله مبني على الحركة الدؤوبة، التي لا تنقطع، فلا تنقطع تلك الإبداعات، والمصدر الشرعي لذلك قول النبي ﷺ لحسان بن ثابت رضي اللَّهُ عَنْهُ: «اهجهم وروح القدس معك»، وهو ما يدل على ضرورة المشاركة نحو البناء بأي جهد ممكن سليم.
وغني عن القول هنا: أن هناك فئتين حمَّلهما الله تعالى المسؤولية العظيمة: الحكام، وأصحاب النفوذ والقرار، وهؤلاء تتجلى مسؤوليتهم في المنظور السياسي، والعلماء، وأهل الفكر، وهؤلاء تتجلى مسؤوليتهم في البيان، والتوجيه، والتصحيح، وضبط المسار العام، والنصح.
ولا شكَّ أن جهودًا مباركة قامت من تلك الفئتين، كانت جهودًا متنوعة إغاثية وإرشادية ودبلوماسية وغيرها، حقها أن تُشكر، ويُدعى لأصحابها، وألا تغمط وتهمش، ولو كانت لم تصل عند بعضهم للطموح المنشود، ولكنها خطوات إيجابية، نأمل مزيدًا منها للقيام بالواجب، ومما يشار إليه هنا:
ومن نافلة القول: أنَّ جهودًا ظاهرة وخفية برزت في هذا الحدث: أدعية ربانية في القنوت بخشوع ظاهر، وأدعية الصلوات والخلوات، وكذا تبرعات سخية على مستوى الدول والشعوب، وإغاثات طبية، وإسهامات أطباء، وتفاعل جمهوري، وغضب عالمي، وجهود إعلامية لم تكن مسبوقة، ونصائح من هنا وهناك، وغيرها مما يصعب حصره، ويُشار إلى ما يلي:
وإن كان من الواجب تثمين تلك الجهود العظيمة، فمن الواجب استشعار حالة المرابطين هناك من جميع الفئات، دون حصر القضية في فئة واحدة، فهم الذين في الواجهة، فيتوجب لهم الدعاء، والدعم بكل أنواعه ووسائله، والنصح، كل بحسبه، كان الله سبحانه وتعالى في عونهم، وسددهم ونصرهم وأيدهم.
وقد وضعت الحرب أوزارها، وتوقفت مع شيء من الحذر يَرِدُ السؤال: مَن المنتصر؟ ومن المهزوم؟ ومن الكاسب؟ ومن الخاسر؟
إنَّ من الاستعجال الإجابة المطلقة بانتصار أو هزيمة، وإن كانت الآمال قد تتغلب على الآلام، ولكن من الخير والحكمة أن نقف مع عدة نقاط تعين على التبصر في تحسب العواقب، ومنها:
ومن الموازنات: إدراك حالة اليهود، فلا شكَّ أنهم حقَّقوا شيئًا من أهدافهم، ومنها: القتل لجميع الفئات، والتدمير للممتلكات، وتخريب الديار، والقضاء على كثير من المزارع، والمنشآت، ودور العلم، والعبادة.
هذا جزء من أهدافهم: تحقق شيء منه.
وهذا ما ذكره الله -جل وعلا- في كتابه، بل فعلوه مع أنفسهم لما أخرجهم النبي ﷺ من المدينة: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَتَأْوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾ لكن المطلوب: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [الحشر: 2].
أما أهدافهم: في القضاء على فلسطين، أو أهلها، أو على حزب معين، أو جث جذور المقاومة، فأنَّى لهم؟ لأن حكمة الله تعالى وسنته جارية في استمرار الصراع.
ليس المهم –مع أهميته– إظهار علامات النصر، بقدر أهمية منهج التعامل في المستقبل الذي يتطلب برنامجًا دقيقًا لإخواننا هناك، وهذا يجعلنا نقول نقاطًا سريعة:
وبعد، فالسفينة كلها حققت انتصارًا عامًا في هذه الجولة، لكن هذه الجولة حلقة في سلسلة صراع مع اليهود الذي لا ينتهي إلا بعد أن ينطق الحجر والشجر: «يا مسلم، ورائي يهودي، تعالَ فاقتله، إلا شجر الغرقد».
وهذا لا يعني أن يكون هناك جولات بعيدة الأمد تحمل هدوءًا وهدنة، وغير ذلك.
وأخيرًا وليس آخرًا: إن من الخير بيان محاذير وقع بعض منها:
وغير ذلك من المحاذير التي يدركها العاقل فالحذر من الوقوع فيها وأمثالها، فإنَّ عظم الأحداث قد يجعل أمام البصر والبصائر غشاوة.
هذه كلمات وتأملات أعلم يقينًا أنها لا يغيب أكثرها عن الإخوة في فلسطين، وفي غير فلسطين ولكنها شيء مما يختلج في الصدر، وهي من الذكرى، والتناصح، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ﴾ [الأعلى: 10] مع شعور الكاتب وموقع شبكة السُّنة النبوية بالتقصير في هذه القضية وغيرها.
نسأل الله تعالى أن يثيب على الصواب، وأن يعفو عن الخطأ والزلل، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل هذا الحدث نصرًا عظيمًا لفلسطين خاصة، وللمسلمين عامة، وأن يدمر اليهود، وأعوانهم، ويرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأن يبطل خططهم، ويفشل مساعيهم، وأن يجعلهم عبرة للعالمين، ويفرق كلمتهم، وأن يعلي -سبحانه- دينه، وينصر مَن نصر دينه، وأن يرحم الموتى، ويحسن العزاء في ذويهم، ويرزقهم الصبر والاحتساب، وأن يشفي الجرحى والمرضى، وأن ييسر أرزاقهم، وأقواتهم، ودواءهم، ومقدرات حياتهم، وأن يقوي ضعفهم، ويسخر لهم من هو أقوى منهم، وألا يكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى أحد سواه طرفة عين، وأن يجعل العاقبة لهم، وأن يجزي خير الجزاء من دعا لهم، وعاونهم ماديًّا، ومعنويًّا، وإعلاميًّا، وصحيًا، وغيرها، حكومات، وشعوبًا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.