الحج يتسم بسمات يظهر التيسير فيها بوضوح في جميع شعائره، وعلى الدعاة توجيه الحاج للأخذ بمبدأ التيسير فيما لا يخل بالشروط والأركان والواجبات، مع مراعاة مذهبه الفقهي ومُفتي بلاده، وبناء التيسير على الكتاب أو السُّنة، وليس على الأهواء أو الشهوات أو الابتداع أو الاستجابة لـ«ضغط الواقع».
فليس من التيسير التفريط في الأحكام الشرعية أو الإخلال بالمفاهيم الإسلامية أو إعطاء العقول الحق المطلق لتفسير النصوص.
التيسير من مقاصد الشريعة، ولا نستطيع حصر مجالات الخطأ والنسيان والاستكراه، ومن أعظم معالم التيسير ورفع الحرج الغلو في الدين والتكلف والشطط، فهي أمور تنافي التيسير، وعند تعارض المواقف يؤخذ العفو والصفح والإحسان والرحمة.
اليُسر ضدُّ العسر، ويعنى به إمكانية تطبيق الشريعة من المكلف دون حرج، أو مشقة، أو ضرر، أو تكلف، أو عنت، مع إعمال لنصوص الشريعة، وعدم إهمالها، أو تجاهلها، أو تأويلها من غير دليل شرعي.
وبهذا يُعلم أن التيسير في الشريعة له معالم يُعرف بها، وضوابط تحده حتى لا يُشَدَّد في تناول النصوص أو يُتَساهل وتُؤوَّل فينحرف بهذا الناس عن مقصد الشارع من التكليف.
لا شكَّ أنَّ التيسير بهذا المفهوم مقصد من مقاصد الشريعة، بل بُنيت أحكام الشريعة على ذلك، وقد تواترت النصوص من القرآن الكريم والسُّنة المطهرة لتقرير هذا المقصد بأساليب وصيغ متعددة، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، وروى البخاري وغيره أن النبي ﷺ قال: «إنَّ الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»، وروى الإمام أحمد وغيره أن النبي ﷺ قال: «إني لم أُبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة».
إنَّ النبي ﷺ هو القدوة والأسوة، والأنموذج العملي لهذا الدين، تراه في تعامله مع ما نزل عليه من الوحي أو ما يوجِّه إليه أصحابه رضي الله عنهم، أو ما يواجهه من أحوال ومشكلات يقرر هذا المبدأ العظيم، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: هلكت يا رسول الله، قال: «وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟» قال: لا، قال: ثم جلس فأتى النبي ﷺ بعرق فيه تمر، فقال: «تصدق بهذا»، قال: على أفقر منا؟! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك، وفي مجال التصحيح: ما رواه الشيخان أنه ﷺ في أحد أسفاره رأى كثيرًا ممن معه صام وشق عليهم الصيام، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر».
ذكر أهل العلم عددًا من معالم التيسير في الشريعة، وهي -أي هذه المعالم- من أهم ما يُرفع به الحرج عن هذه الأمة، ومنها:
الرخصة: والمراد بها الحكم الثابت على خلاف الدليل بعذر شرعي، فمتى وُجد العذر وُجدت الرخصة، كقصر الصلاة الرباعية في السفر، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر أو صلاتي المغرب والعشاء، والفطر في نهار رمضان، والصلاة قاعدًا إن لم يتمكن من أن يصلي قائمًا، والتيمم للطهارة إذا لم يجد الماء أو عجز عن استعماله وغير ذلك، وروى الإمام أحمد وغيره أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه».
وهذا من أعظم معالم التيسير ورفع الحرج عن الفرد أو المجتمع عندما يقع الخطأ، أو ينسى تكليفًا معينًا، أو يُكره إكراهًا على فعل من الأفعال، مثل أن يجتهد في تحصيل القِبلة ولم يستطع وليس لديه معالم ثم يتحراها ويصلي فيتبين خطؤه، فلا حرج عليه، أو ينسى في نهار رمضان فيأكل أو يشرب فلا حرج عليه ويتم صومه، أو يكره على النطق بطلاق، أو كلمة كفر وإلا سيهلك فلا حرج لو نطق بلسانه دون اعتقاد قلبه، وغيرها كثير: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ [البقرة: 286]، وقال ﷺ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
والمقصود النهي عن التجاوز عن الحدِّ الشرعي الذي وضعه الشارع لهذا الدين، فالغلو ليس له حد ينتهي إليه، ولذا جاءت النصوص الخاصة بالنهي عن الغلو، ومن ذلك النهي عن الغلو في الدين نفسه، قال تعالى: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: 171]، ومنه النهي عن الغلو في النبي ﷺ نفسه، روى الشيخان عن النبي ﷺ قال: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله». ومنه النهي عن الزيادة فيما شرع الله ﷻ، روى الشيخان عن النبي ﷺ قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»، واشتهرت قصة الثلاثة الذين جاؤوا لأزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فتقالُّوها فقال أحدهم: إني أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أصلي ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فعَلم أمرهم النبي ﷺ فقام منكرًا عليهم حتى قال ﷺ: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
ومن معالم التيسير النهي عن التعمق والتكلف فيما لم يرد به الشرع والضغط على النفس، قال ﷺ بعد أن ذكرت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من صلاة امرأة أتعبت نفسها فقال: «مه، عليكم بما تطيقون؛ فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا»، وقال ﷺ فيما رواه مسلم وغيره: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا.
وهذه من أعظم المعالم: أن جعل الله تعالى مكفرات للذنوب حتى لا تتراكم هذه الذنوب على الإنسان ومن ثَمَّ يهلك في الدنيا والآخرة، فجعل الله تعالى له هذه المكفرات تمحو ذنوبه، بل أعظم من ذلك تبدل سيئاته حسنات، ومن أعظم هذه المكفرات: التوبة، فهي تجُبُّ ما قبلها، والأعمال الصالحة من الوضوء، والصلاة، والإنفاق، والصيام، والحج، والعمرة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والبر والإحسان وغيرها، وقد تواترت النصوص وتنوعت وتعددت على تقرير هذا المعلم العظيم بما لا يجهله مسلم، ولا شكَّ أن هذا من أعظم معالم التيسير في هذا الدين الذي يفتح آفاقًا عظيمة للمسلم، ويجدد فيها حياته، وينطلق في بنائها لما ينفعه وينفع أمته.
وهذا مَعلَم في غاية الأهمية، وذلك أن نوازع الخير والشر موجودة في الإنسان، وأحوال الحياة متنوعة، ومن هنا وجه الإسلام إلى الأخذ بمبدأ الرحمة، وسمى الله سبحانه وتعالى نفسه «الرحمن» و«الرحيم» و«الرؤوف» و«العفو» وغيرها، فهو متصف بالرحمة والرأفة والعفو، ووصف بهما رسوله ﷺ قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
وأمَرَ المؤمنين بأن يتصفوا بهذه الصفات مع غيرهم من المسلمين وغير المسلمين حتى مع الحيوانات.
وعندما تتعارض المواقف رغب الإسلام في أخذ جانب العفو، والصفح، والمسامحة، والإحسان، والرحمة، قال تعالى: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [البقرة: 237]، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ [المائدة: 13] فتصوَّر -أخي القارئ– أن هذه المعاني انتشرت، في نفس كل مسلم وفي معاملته مع الآخرين من أسرته ومجتمعه، ومع المسلم وغير المسلم، كيف يكون أثرها عظيمًا في الطمأنينة والسكينة، والأمن النفسي، والاستقرار المجتمعي، ونشر هذا الدين، والنتاج والنماء؟!
لا نستطيع أن نحصر هذه المجالات، فقد كُتب فيها مجلدات، ولكن حسبي أن أشير إشارات سريعة لضرب أمثلة تفتح آفاق المسلم للسعة والرحابة في دينه الذي يمارسه في جميع شؤون حياته:
في العقيدة: بُنيت عقيدة المسلم على الوضوح والسهولة والبُعد عن التعقيد والتكلف والشطط، ومن أهم مقررات هذه العقيدة بناؤها على أركان الإيمان الستة الواضحة، فليس فيها رموز لا يفهمها إلا أناس معينون، أو طلاسم لا تُفقه، أو أمور لا يتحملها البشر.
في الطهارة: سهولتها، فيكفي الوضوء عن الحدث الأصغر، والتيمم بدله إن لم يستطع استعمال الماء أو تعذر استعماله، وإزالة النجاسة بالماء فحسب وغير ذلك.
في الصلاة: ونماذج التيسير فيها كثيرة جدًّا، ومنها: تخفيفها إلى خمس صلوات مفروضة بدل خمسين، ومنها: سعة وقت كل صلاة، ومنها: عدم التكلف فيها، والتشديد في عدم الإطالة على المأمومين، ومنها: قصر الصلاة للمسافر، وجمع صلاتي الظهر والعصر للمسافر والمريض، وكذا جمع المغرب والعشاء في المطر والسفر والمرض، ومنها: الصلاة جالسًا إن لم يستطع قائمًا، ومضطجعًا على جنبه إن لم يستطع جالسًا، وغيرها.
أما الزكاة: فيكفي الإشارة إلى أن النسبة المقررة لا تتجاوز 2.5، وهذه قليلة إذا نسبت إلى ما أعطى الله تعالى للعبد.
أما الصوم: فيكفي أن الواجب صيام شهر في العام.
وغير ذلك مما لا يتسع المقام لحصره، ولكن الإشارة تغني عن العبارة، ومحل التفصيل الكتب المطولة.
من أعظم المجالات التي يظهر فيها مبدأ التيسير: الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو الحج إلى بيت الله الحرام، ذلك أنَّ الحج يتسم بسمات يظهر التيسير فيها بوضوح، ومن أهم هذه السمات:
وغير ذلك مما لا يُحصى وهذا فضل الله تعالى على هذه الأمة أن جعل هذه الفريضة الجماعية سهلة وميسورة مع عظم ثوابها وجزائها.
من الجهود التي تُذكر وتُشكر ما تبذله الدولة –وفقها الله للخير– من جهود جبارة، وأعمال جليلة، ومنها: ما تبذله وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في مجال إرشاد الحجاج وتوعيتهم والإجابة عن أسئلتهم وحل إشكالاتهم، وحرص كثير من الدعاة وطلبة العلم على هذه المشاركة الإيجابية الكبيرة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يضاعف للجميع الأجر والمثوبة. ولعلَّ من المناسب هنا أن أذكِّر ببعض مجالات التيسير المتبادلة بين الداعية والحاج في مجال التوجيه والإرشاد والإجابة عن الأسئلة، ومنها:
وغير ذلك مما لا يخفى على أنظار طلاب العلم، وأختم بأن أوصيهم ونفسي بتقوى الله تعالى والتثبت وعدم التسرع، والتحمل، وليبشروا بالخير العظيم والثواب الجزيل.
ولعلَّنا بعد هذه الجولة مع التيسير نجيب عن تساؤل طالما طُرح، وتعددت الإجابة فيه، بل وتوسع كثيرون في تطبيقه، فهل لهذا التيسير ضوابط أو هو مطلق لا حدود له أو هو راجع إلى كل مفتٍ بحسبه؟ وهل يشترك في النظرة عامة الناس؟ وما تلك الضوابط؟
وقبل الإجابة أقول: لا شكَّ أن هذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة كثر استخدامه في هذا الوقت، وتعددت محاور نقاشه، كما تعددت طرق تطبيقاته، وهو ما جعل مفهومه عند كثيرين مرتبكًا يصل إلى حد تمييع النصوص الشرعية عند بعضهم، مما جرأ آخرين للقول على الله بغير علم، ومن ثَمَّ فتح هذا التمييع بابًا للأخذ بالأشد، فكان هناك طرفان، كلاهما ذميم في التعامل مع هذا المبدأ العظيم.
ومن هنا وجب بيان ضوابط وحدود التيسير المراد شرعًا، ومن أهم هذه الضوابط:
وبناء على هذه الضوابط فليس من التيسير ما يلي:
ونحو ذلك مما اختلطت فيه المفاهيم.
وأخيرًا: إذا أخذ المسلمون بهذا المبدأ دون غلو أو شطط أو تساهل وتمييع فسيعيشون بحق وسطية هذا الدين، ورحمته، ومحبته، وسعادته، وخيريته، وسينتشر الخير والفضيلة، وسيعم الأمان والطمأنينة، وتفشو السعادة والرخاء، وتقل الجريمة والفحشاء.
وبالمقابل إذا أخذ الناس بالشدة والعسر، أو بالتفريط والتساهل، فستنحرف الأمة عن المسار الصحيح، وتتكلف ما لا تطيق، وتنقل الدين إلى الناس بمفاهيم خطأ، ويسيطر القلق على النفوس والمفاهيم، وأخطرها: القول على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله ﷺ بغير علم، ويحصل الغي والضلال، والبُعد عن المنهج الرشيد، وقانا الله تعالى الانحراف، وجميع الشرور والآثام، والله ﷻ من وراء القصد.