الرحمة من أهم مبادئ هذا الدين التي جاء بها النبي ﷺ لقول الله تعالى لرسوله ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وهي فطرة في الإنسان منذ طفولته لأنها جزء من الخير الكامن في نفس الإيمان، لقوله ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
وهذا يعني أن الرحمة عند الطفل ليست صفة مكتسبة بل هي فطرة في النفس كسائر الفطر والصفات الأخرى الخيرة والسيئة، ولكنها تحتاج إلى تنمية وتغذية من قبل الأولياء والمربين، وهذه هي حقيقة خلق الإنسان التي أخبر الله تعالى عنها في كتابه المبين بقوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۞ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10].
وهذا يُسقط دعاوى بعض الغربيين ونظريتهم القائلة: إما أن يكون الإنسان شريرًا منذ ولادته وليست فيه الخيرية مطلقًا، أو يكون خيرًا دائمًا وخاليًا من صفات الشر والفساد.
فالخلاصة أن الأصل أنها فطرية ولكنها تنمو بالتنمية، وتضعف بعدم ذلك.
إن العوامل التي تساعد الطفل على الرحمة إلى الآخرين كثيرة ترجع جميعها إلى مدى تأثير التربية الإيمانية في نفس هذا الطفل، ومن بين تلك العوامل ما يلي:
قبل كل شيء يجب على الوالدين أن يكثرا من الدعاء لأطفالهما وأولادهما بالصلاح والتقوى، وأن يجعلهم الله قرة أعين لهما، وبارين بهما في حياتهما وبعد مماتهما، ثم لا بد على الوالدين أن يكونا قريبين من أطفالهما ولا يبتعدوا عنهم، مهما بدرت منهم الإساءة وسوء الخلق والقسوة، فإن رسول الله ﷺ كان يتعرض للأذى من الكبار بشتى أشكاله، ويصبر على ذلك فكيف لا يصبر الوالدان على أطفالهما؟ وأهم طريقة للتخفيف من قسوتهم عليهما هو اتباع الحكمة في التعامل معهم بالترهيب أحيانًا، والترغيب أحيانًا أخرى، ومحاولة إيجاد أجواء سليمة تفيدهم وتمنعهم من أذى الوالدين، مثل تنمية المهارات الحسنة التي يميلون إليها، واختيار أطفال صالحين للاختلاط بهم في البيت والمدرسة والحي.
هذه القاعدة ليست مطلقة؛ لأن القسوة الدائمة التي تستخدم في غير موطنها في تربية الأطفال تنقلب إلى نقمة على الوالدين، وقد تولد بالفعل القسوة لدى الأطفال، أما إذا استخدمت أحيانًا وفي المقام المناسب فربما تكون ناجعة، والقسوة لا تعني الضرب فحسب، بل لها صور متعددة، فقد تكون من خلال حرمان الطفل من هدية معينة، أو تكون بنظرة غير راضية إليه، أو تكون بالإعراض عنه وعدم الاهتمام به، والضرب هو آخر مراحل القسوة التي يمارسها المربي أو الأب.
وهذه القاعدة بالنسبة للرحمة ليست مطلقة أيضًا، فأحيانًا كثرة الرحمة الزائدة والحنان الفياض مع الأولاد يفسد أخلاقهم، ويخرجهم من دائرة الأدب مع الوالدين ومع الآخرين، فينمي فيهم الضعف والهلع والدلع.
والسبيل الصحيح هو الاعتدال في استخدام أسلوب القسوة والرحمة مع الأطفال، حسب الخطأ الذي ارتكبه أو الصواب الذي سلكه، والحكيم هو الذي يعرف جرعة القسوة والرحمة التي يتطلبها الطفل لصلاحه وتقويم أخلاقه وتنمية صفة الرحمة لديه، مع العلم أن الأصل في التعامل مع الصغار والكبار هو الرحمة والرفق واللين، وليس القسوة والعنف، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، كما كان شأن النبي ﷺ مع الأطفال، فقد أوصى ﷺ المؤمنين باتخاذ سبيل الحكمة واللين في التعامل مع الآخرين، قائلًا: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه». أما الإفراط في استخدام القسوة المطلقة أو الرحمة المطلقة، يؤدي إلى حدوث خلل في تركيبه الطفل النفسية ويؤثرًا سلبًا على تكوينه الشخصي والأخلاقي.
يعد شهر رمضان مدرسة ربانية إيمانية، يربي الإنسان من جميع جوانب حياته، الروحية والمادية، ومن أكثر ما يتجلى في هذا الشهر مفهوم الرحمة الذي يجب أن يغرسه الآباء والمربون في نفوس من هم تحت ولايتهم، من خلال ربط رمضان بواقع الحياة، فحينما يذوق الإنسان مرارة الجوع والحرمان من الملذات في رمضان يتذكر حال الفقراء الذين يعانون هذا الحرمان طول أيام السَّنة، وهي صورة حقيقية للواقع، لأن الإنسان يتفاعل مع هذه الحال من خلال الجوع والعطش الذي يصيبه في رمضان، فتتكون الرحمة الحقيقية في النفس، ويبقى أثرها في عمل الإنسان وسلوكه على مدى أيام السُّنة، فإذا اهتم الوالدان بهذا المعنى ومن ثَمَّ نقلوه إلى أطفالهم في هذا الشهر المبارك أثمر ثمارًا يانعة بإذن الله ﷻ وكان من الدروس المستفادة في هذا الشهر الكريم.
هذا فضلًا على ضرورة حث الأبناء وتعويدهم على التصدق، والإنفاق على المساكين والمحتاجين في هذا الشهر الفضيل، حيث كان ﷺ كالريح المرسلة في رمضان من كرمه وعطائه، لأن الإنفاق يطهر النفس من آفة الشح والبخل، ويغرس فيها روح الرحمة والمودة نحو الآخرين.