
الخطبة الأولى
الحمد لله على ما خصنا به من الفضل والإكرام، فما زال يوالي علينا مواسم الخير والإنعام، ما انتهى شهر رمضان حتى أعقبه بأشهر الحج إلى بيته الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العظام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا على الدوام، أما بعد :
عباد الله! اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما شرع لكم من الشرائع العظيمة، وما خصكم به من المواسم الكريمة، التي تتوالى عليكم كل يوم، وكل أسبوع، وكل عام، وهي شرائع ملؤها الخير والسعادة، والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي خشوع لله، وخضوع بين يديه، واتصال به، وإقبال عليه، وهي أكبر عون للمؤمنين على القيام بأعباء الدنيا والدين، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة:153]
والزكاة إحسان ومواساة للفقراء والمعوزين، وترغيب للمؤلفة قلوبهم في الدين، وتطهير للمال من الآفات، وتزكية للنفس من الشوائب والمنغصات: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103].
أما الصيام، فإنه ترك للشهوات والمألوفات ومحبوبات النفس طاعةً لله ﻷ، وتربية على الأخلاق الفاضلة، وترك للأخلاق الرذيلة. والحج جهاد وإنفاق وبذل، يتعب فيه البدن، ويترك من أجله الأولاد والوطن، إجابةً لداعي الله، وتلبيةً لندائه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وتجديدًا للتوحيد، ونبذًا للفوارق، وتوحيدًا للأمة، واجتماعًا على الدين، ودحرًا للشيطان.
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ۞ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ۞ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 27-29].
عباد الله! ونحن الآن في أشهر الحج التي جعلها الله ميقاتًا للإحرام به، والتلبس للحج بنسكه، والمواقيت زمانية بمعنى الزمان الذي يحرم به الحاج للحج، قال سبحانه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
فالحج يقع في أشهر معلومات وهي: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، وقوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ ﴾ أي لأن الناس يعرفونها من عهد إبراهيم عليه السلام ، فالحج وقته معروف لا يحتاج إلى بيان، كما احتاج الصيام والصلاة إلى بيان مواقيتهما.
أيها المسلمون! إن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام فرضه الله في السنة التاسعة من الهجرة على الصحيح ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
ففريضة الحج ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين قاطبة إجماعًا قطعيًّا، مرة واحدة في العمر، وما زاد فهو تطوع، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بها وتركها تهاونًا فهو على خطر، إذ كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته المالية والبدنية عليه، ونحن نعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟ كيف يبخل بالمال على نفسه في أدائه لهذه الفريضة وهو
ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه؟ وكيف يوفر نفسه عن التعب في الحج
وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه؟
جاء عن عمر رضي اللَّهُ عَنْه أنه قال: ليمت يهوديًا أو نصرانيًا- قالها ثلاثًا- رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله.
وهو مرة في العمر إلا أن له فضلًا كبيرًا جاءت به الأحاديث عن المصطفى ﷺ دالة على استحباب تكراره لما فيه من الأجر الكبير والخير الجزيل.
فيجب على المسلم أن يبادر بأداء الحج الواجب مع الإمكان، ويأثم إن أخره بلا عذر؛ لقوله ﷺ: «تعجلوا إلى الحج- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له».
عباد الله! جاءت شريعة الإسلام موافقة للحكمة ومطابقة للعدل بين الأنام، فلم تلزم العباد بالفرائض والواجبات إلا بشروط مرعية يلزم وجودها حتى يكون فرضها واقعًا موقعه.
والحج لا يكون فرضًا على العباد إلا بشروط خمسة:
1- أن يكون الحاج مسلمًا بمعنى أن الكافر لا يجب عليه الحج قبل
الإسلام.
2- العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا يصح منه؛ لأن الحج لا
بد فيه من نية قصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.
3- البلوغ، فلا يجزئ حج الصغير عن حجة الإسلام، ولو حج صح
منه، ولوليه أجر كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، فقد عرضت امرأة صبيًا لها
وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال، نعم ولك أجر.
4- الحرية.
5– الاستطاعة بالمال والبدن، بأن يكون عنده مال يتمكن به من الحج
ذهابًا وإيابًا ونفقة، ويكون هذا المال فاضلًا عن قضاء الديون والنفقات
الواجبة عليه، وفاضلًا عن الحوائج التي يحتاجها من المطعم والمشرب
والمركب وغيرها.
ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها؛ لامتناع السفر عليها شرعًا، إذ لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلًا أم قصيرًا، وسواء كان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة أم كبيرة، وسواء كان السفر برًّا أم بحرًا أم جوًا، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي ﷺ يخطب، ويقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم».
وإذا عزم الحاج على الحج، فعليه تجديد الإخلاص لله سبحانه، والمشي على خطى حج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام القائل: «خذوا عني مناسككم»، ويحرم الحاج من أحد مواقيت الإحرام وهي المواقيت الخمسة.
ومن أركان الحج: الوقوف بعرفة لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة:198]
ولقوله ﷺ: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
ومن الأركان: الطواف بالبيت، والمقصود طواف العمرة وطواف الإفاضة للمتمتع، أما القارن والمفرد فطواف الإفاضة فقط، لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج : 29].
ومن الأركان: السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
هذه هي أركان الحج التي لا يصح إلا بها، فاتقوا الله عباد الله، وأدوا حجكم كما حج نبيكم صلوات الله وسلامه عليه. محافظين على شروطه وأركانه وواجباته .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الملك القدوس السلام، شرع لعباده حج بيته الحرام، وجعل ذلك أحد أركان الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المسلمون! فكما أن للحج شروطًا وأركانًا، فله واجبات يجب فعلها، وإذا أخل بواحد منها وجب عليه دم؛ لقول ابن عباس م: من ترك نسكًا فعليه دم. فمن ترك واجبًا من واجبات الحج عليه أن يفدي بشاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة تذبح في مكة وتعطى فقراء أهلها، وهي ما يلي:
1- أن يكون الإحرام من الميقات المعتبر شرعًا؛ لقول النبي ﷺ: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة...»الخ
2- استمرار الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة.
3- المبيت بمزدلفة ليلة عيد النحر.
4- الحلق أو التقصير للرجال والتقصير فقط للنساء.
5- المبيت بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر لمن تعجل، وليلة الثالث عشر لمن تأخر.
6- طواف الوداع على كل من خرج من الحجاج من مكة إلى بلده إلا الحائض والنفساء؛ لقول ابن عباس م: أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض.
فاتقوا الله عباد الله! كما قال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196].
وليلتزم العبد المسلم بما أمر الله به، ويجتنب النواهي والمحظورات المخلة بحجه والمكلفة له بأداء الفدية والمنقصة من أجره، فإنه لا يتم له كاملًا
إلا بتقوى الله ومراقبته، ولا سيما في تحصيل المنافع التي إذا عمل على تحصيلها في الحج كملت هدايته وحصل على السعادة بالوحدة والتضامن؛ ليرتبط بحبل الله مع إخوانه جميعًا باجتماعهم حول بيته المبارك، والتقائهم فيه متجردين عن جميع الأغراض النفسية كما تجردوا عن المخيط، فتتلاقىأبدانهم وقلوبهم حول الكعبة التي يتجهون إليها في جميع أوقات صلاتهم
معتزين أعظم اعتزاز بنسبهم الديني، الذي هو أغلى وأعلى من جميع الأنساب، والذي يحقق لهم الوحدة الكبرى إذا تمسكوا به فكانوا هم الكثرة الكاثرة بين الأمم، وهم القوة التي لا يوقف في وجهها بإذن الله.
أيها المسلمون!
إن المسلمين وهم يؤدون هذا الركن العظيم بهذه الشروط والأركان يحققون به الاقتداء بسيد الأولين والآخرين، ويستشعرون بعظمة تلك العبودية الحقة لله الواحد الأحد، في حجهم ومناسكهم واضعين أمامهم قول إمامهم: «خذوا عني مناسككم».
وصلوا وسلموا على خير من حج واعتمر. كما أمركم الباري بذلك
بقوله تعالى: ﴿ِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

الصراع بين الحق والباطل
الخطبة الأولى الحمد لله الذي جعل الحق ناصعًا أبلجًا، وجعل الباطل مظلمًا لجلجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده...

من نواقضِ التَّوحيدِ: الشِّركُ بِالله
الخطبة الأولى الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره،...

عوامل بناء المجتمع
الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا...

الإيمانُ بالملائكَة والكتُب والرُّسُل وأثرُ ذلك في الحياة
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، امتن علينا بسلوك سبيل الناجين، أحمده، سبحانه، وأشكره على نعمه حمد الشاكرين،...

حدث ووقفات
الخطبة الأولى الحمد لله غافر الزلات مقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره،...