home-icon
توحيد الله في أسمائه وصفاته

الخطبة الأولى

الحمد الله القائل: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، أحمده سبحانه وهو الحكيم اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن على هداهم يحث المسير، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله ليوم تعرضون فيه على الله، ثم توفى كل نفس ما عملت، ولا تظلم نفس شيئًا، اتقوا الله بالعمل بطاعته، وتوحيده، تفلحوا في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون: الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله تعالى، وهذا الإيمان يتمثل بالاعتقاد الجازم بتوحيد الله في ربوبيته، بمعنى توحيد الله بأنه الخالق الرازق، المالك المتصرف المحيي المميت وهو وحده رب كل شيء ومليكه، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، لا نظير له، ولا شبيه له، هو الرب المعبود، مربي الخلق بنعمته، ليس له شريك، ولا نعبد إلا إياه، ولا نصرف شيئًا من أفعالنا وأقوالنا الإله، فالدعاء له، والنذر له، والتوجه إليه، والرجاء والخوف منه سبحانه، والرهبة والرغبة والإنابة والتوكل عليه، لا إلحاد ولا تشبيه لأسمائه وصفاته، ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، نثبت ما أثبته لنفسه، وننفي ما نفاه، ونسكت عما سكت عنه، فهذا أصل الدين وهو الحق اليقين، يجب قبوله بدون تكبر، والإذعان والانقياد والاستسلام له دون تردد، وفي ذلك نجاة العبد وسلامته، وبالتسليم سروره وسعادته.

أيها المسلمون: وفي هذه الجمعة نتحدث عن واحد من أنواع التوحيد هو الإيمان بأسمائه وصفاته.

وتوحيد الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله ﷺ من أسماء حسنى وصفات علا، ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾ [طه: 8]، ونفي ما نفاه الله عن نفسه ﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ۞ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾ [الإخلاص: 3-4] أو نفاه عنه رسوله ﷺ من صفات النقص والعيب.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ‏:‏ عن هذا التوحيد: «هو اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله ﷺ من النقائص والعيوب ومن كل ما ينافي كماله».

يجلِّي ذلك ويوضحه- عباد الله- قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، فقد نفى مشابهة شيء له سبحانه، وأثبت له اسمَيِ السميع والبصير، المتضمنَين صفة السمع والبصر، فالواجب إثبات اسم السميع والبصير، اللذَين يشتق منهما صفتا السمع والبصر، فيسمَّى الله بالسميع، ويوصف بأن له سمعًا لكن لا يشبهه أحد من خلقه، فيثبت له إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، فعلى هذا نثبت اسم السميع، ونثبت الصفة التي تضمنها هذا الاسم لله عز وجل وهي صفة السمع، ونثبت حكمها ومقتضاها وهو أنه يسمع سبحانه السر والنجوى ولا تخفى عليه خافية كما قال تعالى: ﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7].

أيها المسلمون: لهذا التوحيد- أعني توحيد الله في أسمائه وصفاته- أهمية عظمى، يظهر أثرها على حياة المسلم في الدنيا والآخرة، لهذا كان الإيمان بهذا التوحيد، واستشعار أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى في القلوب وجلاء معانيها في الصدور أثر عظيم، وثمرات كبرى، رأس هذه الثمرات، وأعظمها حلاوة وطلاوة، أن العبد بهذا العلم يعرف ربه وخالقه وإلهه ومعبوده، فالعلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفته سبحانه، ومن ثمّ عبادته حق عبادته، ومما يشين العبد أن يكون جاهلًا بربه سبحانه وخالقه ورازقه ومحييه ومميته.

ومن ثمرات هذا التوحيد: أنه يثبِّت الإيمان في القلوب، ويقوِّي الخشية في النفوس، وينمِّي الخضوع والخشوع، ويمكّن من مراقبة الخالق في الخلوات والجلوات، ولهذا كان أعظم الناس خشيةً هم أهل العلم العارفون بربهم سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28].

فإذا استحضر العبد ربه جل وعلا وصفاته العظيمة ملأت قلبه تعظيمًا وإجلالًا، وأسماء الجمال والبر والرحمة والجود والإحسان تملأه محبة وشوقًا ورغبة فيما عنده وحمدًا وشكرًا له.

فإذا استقر في قلب المؤمن أن الله تعالى هو المتفضل عليه بإنشائه من العدم، وهو سبحانه الذي يكلؤه بعنايته وحفظه في جميع مراحل حياته، وهو الرحمن الذي يرحم ضعفه، والرحيم الذي يجبر كسره، وهو الغفور الذي يتجاوز عن زلاته، والغفار الذي يغفر خطيئاته فإذا استقرت هذه المعاني السامية في قلب المؤمن وغيرها، أثمر ذلك الشكر والعرفان على جوارحه، والحمد على فضله وعظيم منته. وإذا استقر في قلب المسلم أن الله تبارك وتعالى كما أخبر عن نفسه: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ۞ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر49، 50] اعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الله تعالى يغفر ويرحم من سلك طرق النجاة من النار، وأنه تعالى شديد العقاب أليم العذاب لمن تجاوز حد عبوديته وانتهك ما حرمه الله تعالى، أورثه هذا الاعتقاد خوفًا ووجلًا من عذاب الله فاستقام على طاعته يرجو رحمته ويخشى عذابه، وإذا استشعر العبد أن الله تعالى عليم ورقيب ومشاهد كما قال عليه الصلاة والسلام: «يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» راقب العبد ربه وعلم أنه مطلع عليه في خلواته ومع خلقه، وفي حركاته وسكناته فلا يطلع إلا على عمل صالح، أو قول طيب أو نية حسنة.

وإذا استشعر العبد أن الله غني كريم، خزائنه ملآى ورزقه لا ينفد، لجأ إليه وطلب الغنى منه، وافتقر إليه، وشكا حاجته إليه.

وكذا إذا استقر في قلب المؤمن أن الله تعالى هو الرازق امتلأ قلبه يقينًا بأن الله لا يضيعه، وازدادت نفسه ثقة واطمئنانًا بأن مالك الملك لا تنفد خزائنه أبدًا.

وإذا علم المسلم أن الله تعالى هو المحيي وهو المميت علم أنه عاجلًا أو آجلًا سيلقى الله تعالى بعد أن يقضي الله عليه بالموت فأثمر ذلك استعدادًا للقاء الله، وتزودًا من الأعمال الصالحة، وبذلك يرتفع قدره عند الله جل وعلا.

وإذا استشعر المؤمن بأن الله هو الشافي الكافي لجأ العبد إليه في سرائه وضرائه، ولم يطلب الشفاء إلا منه ولا يتعلق قلبه إلا به، فكثر افتقاره إليه، والتفاته له، وعزّ بعزّه ، واغتنى عن خلقه، ولم يذل إلا له.

وإذا استشعر أن الله سبحانه هو القوي استمد القوة منه وطلب المنعة منه، وهكذا ينبغي أن يستشعر العبد أسماء الله وصفاته ليتمثلها في عبادته له سبحانه.
أيها المسلمون: ومن ثمرات هذا التوحيد الكف عن المعاصي والسيئات، فإذا تذكر العبد بأن الله يراه، ومطلع عليه، ويعلم ما تكنه نفسه، وما يحمله صدره، فيذكر وقوفه بين يدي ربه وخالقه وينزجر ويكف، ألا ترى ذاك الذي تقع عينه على محارم الله، ويلج عليه شيطانه ليزين له هذا الحرام، فإذا استشعر رؤية الله له وإطلاعه عليه كف وانزجر وإلا وقع في المعصية وأوحالها.

ومن ثمرات هذا التوحيد: أن العبد تقع عليه الأذية من أشرار الخلق من أهل الحسد والحقد، أو من أعداء الله من الكفرة والمنافقين فيجدّون في حسده، ومنع الرزق عنه، وطلب أذيته وعداوته، فيعلم أن الأرزاق بيد الله سبحانه، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن مصرف الخلق هو الله سبحانه، فيثمر له هذا العلم الشجاعة القلبية والقوة المعنوية والتعلق بالله سبحانه ويتضاءل أمامه حسد الحاسدين وكيد الكائدين وعدوان المعتدين.

ومن ثمرات هذا التوحيد: أن العبد قد يضعف أمام ما يصاب به من الأمراض والأسقام والمصائب التي تصيبه، وربما لا يعلم البشر بملامحها فيستعصي فيبلغ به الألم مبلغه، وقد يتطرق إليه اليأس، فيتذكر أن الله هو الشافي فيرفع إليه يديه بخشوع وخضوع وتذلل ورغبة ورهبة، ويدعوه دعاء المضطر فيفتح الله له ما كان مغلقًا عليه من أبواب الأمل والشفاعة، ويتصبر ويرضى ، فيدخر الله له أعظم الثواب وأجزله فضلًا عن الشفاء.

ومن ثمرات هذا التوحيد: زيادة الإيمان وتثبيته في النفوس، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].

أيها المسلمون:

هذا غيض من فيض من ثمرات هذا التوحيد العظيم فلنحييه في نفوسنا، ونعمقه في قلوبنا، ويظهر على جوارحنا، ونتعامل به في سلوكنا. رزقني الله وإياكم ذلك.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة رسوله ﷺ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الملك القدوس العزيز الحكيم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وهو الرؤوف الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء العابدين الموحدين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

إن مما ينبغي أن نعلمه أن معرفة توحيد الله في أسمائه وصفاته دقيق، والزلل فيه خطير، وقد وقعت فئات من طوائف المسلمين في انحراف وزلل بهذا التوحيد.

من صور هذا الانحراف، عدم إثبات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى الإثبات اللائق به، فحرّفوها وتأوّلوها كمن يقول عن (يد الله) قدرته، وليست يدًا حقيقية، أو شبهوه بخلقه فقالوا: له يد كأيدينا؛ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

ومن صور الانحراف في هذا التوحيد علم كثير من الناس أن الله يسمعهم ويبصرهم ومطلع على أحوالهم، يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويعلم السر وأخفى، وما تكنّه الصدور من النجوى، ومع ذلك ينتهك ما حرم الله فيبارز الله بالمعاصي وقد يظهرها والعياذ بالله، إن الذي يقارف معصية ككبيرة الزنا أو يتعامل بالربا، لو سألته أليس الله يراك؛ ويطلع عليك؟ لأجاب بأن نعم، إذًا فلِمَ تبارزه بالمعصية وهو المطلع على جميع أحوال العبيد؟ وذاك الذي أطلق لسمعه العنان فيستمع إلى الغناء والمعازف ولا يبالي، ويبصر بعينه المحرمات ولا يبالي! ألا يؤمن بأن الله هو السميع البصير؟ وذاك الذي يكثر التوجع من المرض، أو الخوف من عدم الرزق! ألا يؤمن بأن الله هو الشافي الكافي الرزاق ذو القوة المتين؟

أيها المسلمون:

اعرفوا الله حق معرفته، وتعلموا أسماء الله ومعانيها لتعبدوا الله حق عبادته فتعود عليكم ثمارها وآثارها بالسكينة والطمأنينة والمغفرة والرحمة.

وهكذا كان الرسول ﷺ الذي عرف الله حق معرفته فعبده حق عبادته حتى تفطرت قدماه من طول القيام شكرًا لله سبحانه، وقد ابتلي أشد ما يبتلى به نبي ورسول في خدمة دينه ونشره، وأوذي في ذلك، وصبر وصابر، ولم يزعزعه شك ولا شبهة، ولم تزغ به شهوة – بأبي هو وأمي، صلوات الله وسلامه عليه- فاقتدوا به يرتفع قدركم عند ربكم، ويزيد في درجاتكم، ويندحر شيطانكم، وصلّوا وسلّموا على رسول الله خير من صلى وصام، ووحد الله وقام، وأنفق وعبد، وصلى وسجد، صلوا عليه كما أمركم والله جل وعلا في محكم التنزيل حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.