home-icon
النصيحة

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا بالإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى.

أيها المسلمون: إن من خير ما ينتفع به المرء في الدنيا والآخرة أن يستجمع وصايا النبي ﷺ فيحققها، فلم يكن من خير إلا دل الأمة عليه، ولا من شر إلا حذرها منه، فقد أمر ونهى ونصح وبلغ، صلوات الله وسلامه عليه.

روى مسلم وغيره، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «الدين النصيحة» – ثلاثًا – قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» (رواه مسلم).

أيها المسلمون: هذا حديث عظيم الشأن، جمع في كلمات قليلة معاني عظيمة، لو تدبرها المسلم لكان في ذلك خيرٌ له في الدنيا والآخرة. جعل رسول الله ﷺ الدين هو النصيحة، فمتى نصح العبد في هذه الأمور الخمسة، فقد استكمل الدين، ومن قصر في النصيحة بشيء منها، فقد نقص دينه بحسب ما قصر فيه. “النصيحة في الجملة كلمة يُعبَّر بها عن جملة هي: إرادة الخير للمنصوح له“.

فأما النصح لله: فهو القيام بحقوقه وعبوديته التامة، والقيام بأداء واجباته على أكمل وجه، والإخلاص له، وصدق المرء في طلب مرضاته، راضيًا بقضائه، قانعًا بعطائه، ممتثلا أوامره، مجتنبًا نواهيه، مخلصًا له في ذلك كله، قائمًا بعبوديته. وعبوديته تعم ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان كلها، وأعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان من الفروض، وفعل ما يقدر عليه من النوافل، ونية القيام بما يعجز عنه، يقول سبحانه وتعالى في حق المعذورين: ﴿لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 91].

فاشترط في نفي الحرج عن هؤلاء أن يكونوا ناصحين لله ورسوله، وذلك بالنيات الصادقة والقيام بما يقدرون عليه. ومن أعظم النصيحة لله: الذب عن الدين، والغيرة على حرمات الله إذا انتهكت، والذب عن شريعة الله إذا أُهينت، والحث على تطبيقها في واقع الحياة.

وأما النصيحة لكتابه: فتعني الإيمان بالكتب السماوية إجمالًا، والإيمان بالقرآن إجمالًا وتفصيلًا، وأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9].ومجمل نصيحة المسلم لكتاب ربه في عدة أمور:

أ – بقراءته وحفظه، أو حفظ ما تيسر منه؛ لأن في قراءته أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا، وبه يُكسب العلم والمعرفة، وتحصل طهارة النفس وصفاء الضمير وزيادة التقوى، وزيادة الحسنات، والشفاعة يوم القيامة.

روى مسلم وغيره أن رسول الله ﷺ قال: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» (رواه مسلم).

ب – ومن النصح لكتاب الله: قراءته بتدبر وخشوع، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: 24]. فيقرأه القارئ وكأنه يخاطب ربه.

ت – ومن النصح لكتاب الله: العمل بما فيه، والتفقه بما يحتويه، فلا خير في قراءة لا فقه فيها، ولا خير في فقه لا عمل به. فمقصود القراءة هو التدبر والعمل والتطبيق، يقول سبحانه: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقْتًۭا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3].ومن النصح لكتاب الله أن نتعلمه ونعلمه للأبناء والبنات والذرية، فخير ما يُربى عليه الولد آيات من كتاب الله تعالى يحفظها ويتعلم معانيها وينطقها، فينشأ على حفظ كتاب الله.

روى البخاري وغيره أن رسول الله ﷺ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه» (رواه البخاري).

وبالجملة فالنصح لكتاب الله تعالى: الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبره وتعلم معانيه وتعليمها، والتخلق بأخلاقه وآدابه، والعمل بأحكامه واجتناب نواهيه، والدعوة لذلك، لكن الملاحظ في واقع كثير من المسلمين أنهمأهملوا النصح لكتاب الله، فمنهم من هجر قراءته وتدبره، ومنهم من هجرالعمل به أو تعليمه لنفسه وأسرته، وهذا في خطر عظيم وجفاء مع الله تعالى ومع كتابه، بل الكثير من الناس ترك تعليم كتاب الله لأطفاله وأسرته، تركهم للشيطان وللهوى ولأصدقاء السوء يعلمونهم الكلمات البذيئة أوكلمات الأغاني الماجنة، والسباب والشتائم، ونحو ذلك، وهذا بلا شك له تأثيره السيء على نشأة هذا الابن والبنت، فعلينا أيها المسلمون: أن نرجع لكتاب الله فنتعلمه ونقرأه ونعلمه أبناءنا وبناتنا، والإمكانات ميسورة، فكثيرمن المساجد فيها مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وأشرطة التسجيل للقراءة متوفرة، ونحو ذلك.

أيها المسلمون! وأما النصيحة لرسول الله محمد ﷺ في الإيمان الكامل به وتعظيمه وتوقيره وتقديم محبته على الخلق كلهم، وتحقيق ذلك وتصديقه باتباعه ظاهرًا وباطنًا في العقائد والأخلاق والآداب والأعمال، يقول سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾ [آل عمران: 31] والحرص على تعلم سنته وتطبيقها وتعليمها: ﴿وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ﴾ [البقرة: 231]. ففي محبة رسول الله ﷺ محبة لله، وفي طاعته طاعة لله: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ﴾ [النساء: 80]. ومن النصح له بعد موته ﷺ قراءة سيرته وتدبرها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ونشر سنته والدفاع عنها بالقلم واللسان فينفي عنه بدع الغالين ودعاوى المبطلين.

أيها المسلمون! وأما النصح لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم حكامًا وقضاة وجميع من له ولاية صغيرة أو كبيرة، والنصيحة لهم بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم، ولزوم أمرهم، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والسداد، والصدق والإخلاص فيما ولي الإنسان مما يوكل إليه من أعمال، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59].والنصح لهم إعانتهم على الحق، والتنبيه على غيره في رفق وحكمة ولطف، ليعم الخير والأمن والسعادة في الدنيا والآخرة. فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بهذه النصيحة تفلحوا وتفوزوا دنيا وأخرى، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

أما بعد:

أيها المسلمون! وأما النصيحة العامة للمسلمين، فتكون بمحبة الخير لهم، والسعي في إيصاله إليهم بحسب الإمكان، وكراهية الشر والمكروه لهم، والسعي في ذلك، ودفع أسبابه، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، وكل ما يحب العبد أن يفعلوه معه من الإحسان يفعله معهم، ومعاونتهم على البر والتقوى، وأمرهم بالمعروف، وحثهم عليه، ونهيهم عن المنكر وزجرهم عنه، وإرشادهم إلى مصالحهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ومجانبة الفحش، والحقد والحسد لهم، ودفع الأذى والمكروه عنهم. وغير ذلك فيما يؤدي إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة.

روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال: «بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» رواه مسلم .

ويقول الحسن البصري رحمه الله: قال بعض أصحاب النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده، إن شئتم لأقسمن لكم بالله، إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة».

أيها المسلمون:

إن المتمعن في أحوال كثير من الناس يجد أنهم جانبوا طريق النصيحة، وأحبوا لأنفسهم ما لا يحبون لغيرهم، ولو كان أقرب قريب، بل قد يجلبون لأبنائهم وبناتهم أمورًا تبعدهم عن الله، وتبغضهم إلى الله. فمن ترك تربية أولاده على الحق والهدى، فما نصح لهم؟ ومن وفّر لهم أسباب الغواية والبعد عن الهداية، لم ينصح لهم؟ ومن تركهم على أعمال الشر وترك الحبل على الغارب، لم ينصح لهم؟ ومن ترك حقوق ربه وضيعها، وتجرأ على حرمات الله، لم ينصح لنفسه؟ ومن غش في المعاملات، وكذب وخادع، لم ينصح في بيعه وشرائه؟ ومن أحب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، واتبع عورات المؤمنين، لم ينصح لهم؟ ومن شغل نفسه بالغيبة والنميمة، وإلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين، لم ينصح لهم؟ وبالجملة: من عصى الله تعالى وعصى رسوله، وتعدى حدوده، فلم ينصح لله، ولا لكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم.

أيها المسلمون! طوبى لمن اشتغل بالنصيحة، وطوبى للناصحين، فالناصح حقيقة لا تجده مشتغلًا إلا بغرض يؤديه، أو يجاهد نفسه عن محارم ربه ونواهيه، أو يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

فجاهدوا أنفسكم على التخلق بخلق الناصحين، تجدوا حلاوة الإيمان، وتكونوا من أولياء الرحمن، وانصحوا لأنفسكم، ولأسركم، ولإخوانكم المسلمين، انصحوا برفق ولين، وحكمة وعلم، سرًا وسترًا لأجل أن لا تكون النصيحة فضيحة، واقتدوا بإمام الناصحين، وقدوة الخلق أجمعين ﷺ.

وصلوا وسلموا عليه كما أمركم الباري جل وعلا في محكم كتابه العزيز، حيث قال:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا﴾