
الخطبة الأولى
الحمد لله، الذي خلقنا في أحسن تقويم، فسبحانه من عليم حكيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فتقواه عدة كل مسافر، وزاد كل راحل.
أيها المسلمون! لقد خلق الله تعالى الإنسان وكمّل خلقه في أحسن صورة، وأبهى حلة، وأكمل عقل، ومن هنا فقد كلفه بالأمانة الكبرى التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وكان الإنسان ظلومًا جهولًا. ومن حكمته جل وعلا أن قدر على بعض الخلق آفات في جوارحهم أو أجسامهم أو عقولهم وهم من يعرفون اليوم بـ (المعوقين)، ولذا فقد خفف الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء ما تعسر عليهم من التكليف، وأسقط عنهم ما يعجزون عنه قال تعالى: ﴿ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61] وقال سبحانه فيمن عجز عن الصيام: ﴿ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] وهكذا رحمة الله تعالى بعباده فمن لم يستطع الوضوء، أو لم يجد ماء يتيمم، ومن عجز عن الصلاة قائمًا صلى جالسًا ، ومن نُهي عن السجود اكتفى بالإيماء، ومن قطعت يده أو رجله سقطت من التكليف، ومن عجز عن الصيام أطعم، ومن لم يستطع الحج ببدنه أو ماله ارتفع عنه التكليف، ومع ذلك، عباد الله، فقد سطّر التاريخ الإسلامي الماضي والحاضر هممًا عظيمة، وأنفسًا شامخة وقلوبا مفعمة بالحيوية، وعطاءات وتضحيات للكثير من هؤلاء الذين نسميهم معوقين، فهذا عبدالله ابن أم مكتوم لم يردَّه عماه البصري أن يمسك الراية في إحدى المعارك، وعمرو بن الجموح الشيخ الكبير الأعرج المعذور يأبى إلا أن يشارك في غزوة أحد، ويطأ بعرجته الجنة، وجعفر الطيار يعوضه الله تعالى عن يديه اللتين قطعتا، وهو قائد الجيش، بجناحين يطير بهما في الجنة، وأمثال هؤلاء من التابعين وأتباعهم من الأئمة، فهذا عبد الرحمن بن هرمز الملقب بالأعرج، وسليمان بن مِهْران الأعمش، لم تردَّهما إعاقتهما أن يكونا من أكابر رواة الحديث وأئمة الإسلام، وفي تاريخنا المعاصر لم تكن إعاقة الإمام عبد العزيز بن باز، ولا شيخه الإمام محمد بن إبراهيم، لم تمنعهما إعاقتهما البصرية أن يكونا من مجددي هذا العصر في العلم والدعوة والإمامة والقضاء والفتيا، وغيرهما أمثلة لا تحصرها خطبة ولا يحصيها دفتر- نماذج تجعل من المعاق في ما أعطاه الله تعالى من القدرات مثلًا أعلى، وقدوات تنير الدرب وتضيء الطريق.
أيها المسلمون!
ليست الإعاقة الحقة من أصيب في بدنه أو حواسه، فتلك إعاقة كونية قدرية يعوض الله سبحانه وتعالى عنها في الدنيا والآخرة، وإنما المعاق حقًا من أنعم الله تعالى عليه سبحانه بنعمه ومنحه، وعطاياه ومواهبه في جسمه وحواسه وعقله وإمكاناته وقدراته، فلم يستفد منها، ولم يفد بها، أو صرفها في غير موضعها، وفي غير مواقعها.
ومن هنا يأتي عتاب الله سبحانه وتعالى لأولئك الذين أعطوا تلك العطايا فلم يستثمروها، قال تعالى عن أشد المعاقين وهم الكفار: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44].
فجعل الله سبحانه مسيرة هؤلاء بعدم الاستفادة من عقولهم وجوارحهم كالبهائم، وبقدر نقصان الفائدة من هذه العقول والجوارح يكون مقدار تلك الإعاقة.
أيها المسلمون! وثمة معاقون كثر يتقلبون في الناس أعطاهم الله تعالى من نعمه فجحدوا كثيرًا منها ومنحهم فمنعوا، وأكمل لهم فقصروا.
إنكم حين تبصرون شابًا يافعًا، مُلئ قوة ونشاطًا، وتدفق حيوية، حواسه مكملة، عقله سليم، لكنه عاطل عن العمل، أو كسول في دراسته، ضعيف في أخلاقه قصر في أعمال دنياه وآخرته، لم يفد نفسه، ولم ينفع أمه ولا أباه بل كان عالة عليهما، فأنى لمجتمعه أن يستفيد منه.. أليس هو المعاق الحقيقي؟!
وصورة أخرى ترى الرجل المهيب في شكله قد اشتعل المشيب في رأسه، واختلط الشيب في لحيته، همته في العبادة ضعيفة، يكتفي من الصلوات بالمفروضة منها، مقصر في أدائها فضلًا عن قراءته كتاب الله أو حفظه، يقضي ليلته في سهر لا فائدة منه، ونهاره في عمل لا مرد له، قد لا يسد رمقه، ولا يشبع جوعه وجوع أسرته، أليس هذا معاقًا يفرح الأعداء به؟
وشاب تجاوز هذا وذاك، همه تسريحة شعره وموديلات جوالاته وحذائه، عالة على أبيه أو أمه، في الصلاة من المتأخرين من المتكاسلين، وعن الأعمال من المزاجيين، تشبه بالنساء، لا غاية له في الحياة إلا السفاسف من الأمور، والدنيء من الأعمال، وربما تجاوز إلى مخدرات ومسكرات، وأغاني وملهيات فأي إعاقة بلغها، على أهله ومجتمعه.. ومعوقون آخرون ملكوا من الأموال القناطير المقنطرة، أرصدتهم مليئة ، تنعم بها البنوك وترابى بها.. حرم نفسه وأسرته.. لا يطعم جائعًا، ولا يرحم يتيمًا، ولا يعطف على مسكين، ولا يتصدق على من يحتاج، ولا يواسي قريبًا، ولا يعين ذا الملهوف.. ولا يتبرع بمصحف، ولا يشارك في تشييد مسجد، ولا بناء مدرسة، يرنو للزهو في المجالس، ينفق في المفاخرة والرياء، ويمسك حتى عن العشيرة والأقرباء، هل تأمل هذا المعاق مقدار إعاقته؟ فقد ظلم نفسه وأسرته، فضلًا عن مجتمعه وأمته.. ولم يفرح بنعمة ربه في دنياه وآخرته.
ومعوقون أشد خطرًا سخروا أقلامهم وأفكارهم لهدم دينهم، وتشويه معتقداتهم، والتلبيس على الناس، أصبحوا تابعين لأعدائهم، ناعقين بما يريدون، متهمين أمتهم، متنكرين لتاريخهم، لا تلين قلوبهم بموعظة، ولا تنتفع عقولهم بعلم، ظلموا أنفسهم ، حاربوا مجتمعهم، أبطنوا الذل والتبعية لأعدائهم. فكانوا معاول هدم وتخريب، فيا لها من إعاقة بلغت مبلغها فأثرت وتأثرت، فخسرت العاجلة والآجلة.
والمعوقات عباد الله.. فأرخِ أذنك لكثيرات، تسمع عنهن العجب العجاب.. نساء أسوياء جسمًا وعقلًا، لا هدف لهن في هذه الحياة، وقضاء الليالي والأيام إلا لمتابعة الموضة، وما استجد فيها، وسهر على شاشة فضائية، تتابع ما استجد عند الكافرات، تتنافس في الدنايا من الأمور، والتحدث في الهاتف، لا صبر ولا جلد على حفظ آية، أو تأمل حديث. أو عمل طاعة.. أين هذه المعوقة المسكينة من تلك المصلية القائمة القانتة، المحافظة على حشمتها وسترها، والمغتنمة لوقتها، الطائعة لربها، والمقتدية بالسالفات من أمهات المؤمنين والصحابيات والعالمات والداعيات، اللاتي آثرن الباقية على الفانية.
أيها المسلمون! تلك أصناف متعددة من المعاقين والمعاقات لم يستفيدوا من قول الرسول ﷺ : «الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».
فاتقوا الله، عباد الله، واستفيدوا مما منحكم الله من العقول والحواس. والمنح والهبات .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين بكل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى حمدًا يعين على التقوى وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله النبي المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الألباب والنهي والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أسفر نهار وليل دجى، أما بعد:
وثمة صنف من أصناف من الشباب لديهم من الطاقات والقدرات، والحيوية والنشاط، فهموا دينهم فهمًا عاليًا، فصرفوا همتهم للقتل والتدمير، والتفجير، والتكفير فأثاروا الرعب والخوف وأربكوا الأمن والاستقرار، فلا شك أن هذه إعاقة للفهم والعمل، فما الذي يجنيه المجتمع في زعزعة الأمن، وإشاعة القتل؟ وهل هذا سبيل دعوة أو إصلاح؟ أو طريق نماء وتنمية؟
إن الدعوة عباد الله والإصلاح لا يكون إلا عن طريق اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ورث ميراثه من ميراث سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الهدى وأعلام الملة، فدعوة صادقة لشباب هذه الأمة بطلب العلم الشرعي، واتباع سبيله، والصبر عليه، والنيل منه.
أيها المسلمون!
وكما أن الإعاقة تكون في الأفراد تكون في المجتمعات والدول، فبينما تنتشر الإعاقة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية في الضعف والإنتاج، والاهتمام بسفاسف الأمور، وترهات الحياة، تجد إعاقة أخرى تقوم بها الدول الكبرى باستعمال القوة على المجتمعات الضعيفة ظلمًا وعدوانًا وحقدًا، وبعضها تسفك فيها الدماء، وتهلك الحرث والنسل، وتخرب الديار، وتيتم الأطفال، وتنتهك الأعراض، وتسلب الأموال، وتقضي على المقدرات، وما عالم فلسطين والعراق اليوم إلا شاهد عيان واضح على أي إعاقة بلغتها تلك الدول.. إنها إعاقة عظمى بقدر ما تسمى تلك الدول نفسها.
أيها المسلمون!
أيها الشباب.. إن الله سبحانه وتعالى أعطاكم القوة والحيوية، والشباب والقدرة، والصحة والنشاط.. إنها نعم عظيمة لتنفضوا عوامل الإعاقة بأنواعها إفراطًا أو تفريطًا، فشمروا عن سواعد الجد والاجتهاد؛ لتستثمروا هذه النعم, فتكونوا عوامل صلاح وإصلاح، لا معاول هدم وتخريب، قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِير ۞ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ۞ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ۞ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 19-22].
فاتقوا الله عباد الله في استغلال ما منحكم الله قبل أن يندم الإنسان، ولات ساعة مندم.. وصلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله جل وعلا في كتابه الكريم فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

أركان الصلاة
الخطبة الأولى الحمد لله ذي الفضل والعطاء والإحسان، جعل إقامة الصلاة من أركان الإسلام، أحمده سبحانه وأشكره على ما امتن...

من نواقضِ التَّوحيدِ: الشِّركُ بِالله
الخطبة الأولى الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره،...

شكر الله على نزول الأمطار
الخطبة الأولى الحمد لله الذي وعد الشاكرين بالمزيد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، وهو الولي الحميد...

صورتان للقدوة (1)
الخطبة الأولى الحمد لله القوي المتين، الذي أعز عباده المؤمنين، أحمده سبحانه وأشكره جعل العزة في التمسك بالدين وأشهد أن...

التحذير من وسائل الشرك
الخطبة الأولى الحمد لله إقرارًا بوحدانيته، اختص أهل الصدق والتوحيد بصدق معاملته، ومنّ على العاصي بقبول توبته، أحمده سبحانه وأشكره...