home-icon
الفرح في الإسلام

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أحل لنا الحلال، وحرم الحرام، وأعد جناته لمن أطاعه واستقام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلاّم، ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خاتم المرسلين، وخير الأنام، صلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، أما بعد:

عباد الله!

اتقوا الله واعبدوه، واشكروا على نعمه واذكروه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم، فاحذروه، وأعدوا العدة ليوم تسود فيه وجوه، وتبيض وجوه.

أيها المسلمون!
إنَّ الله ﷻ لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لعبادته، وسخر لهم ما تصلح به حياتهم، وشرع لهم ما تستقيم به أمورهم؛ وتطيب به دنياهم وآخرتهم، فقال جل وعلا: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

خلق الله هذه الحياة الدنيا لتكون دار ابتلاء واختبار، فالمسلم فيها بين فرح وحزن، وشكر وصبر، لكنه في ذلك كله موصول القلب بربه، فأمره كله له خير؛ كما في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له» (رواه مسلم).

والمسلم في هذه الحياة المتقلبة لأن تكون حياته فرح وسرور، وابتهاج وحبور، وإن أصابه ما أصابه من الأكدار التي جبلت عليها الدنيا.

أيها المسلمون!

إن الفرح الحقيقي في هذه الحياة الدنيا الذي لا يدانيه فرح فيها هو الفرح بطاعة الله، ومن ثم الاستبشار بفضله ورحمته، جل وعلا؛ فهو فرح القلوب الذي لا يُقارن به فرح زائل بمال أو جاه، أو منصب أو متاع، فإن الله جل وعلا قال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ۖ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «اليوم الذي لا أعصي الله فيه فهو عيد».

فذلكم الفرح الحقيقي، الذي يوهب في الحياة الدنيا للذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فتنشرح به صدورهم، وتطمئن به قلوبهم، فهم في سكينة وطمأنينة يحسدهم عليها من لم يكن مثلهم.

أيها المسلمون!

إن من الفرح الاستمتاع في هذه الحياة وفق ما أحله الله تعالى بضوابط شرعية، فلا ينقطع المسلم في هذه الحياة عن ملذاتها ومسراتها مما أحل الله له: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].

إنها لنعمة كبيرة أن يستمتع المسلم، ويفرح بما يحصل له من الخير والرزق ودواعي السرور؛ بما يلبي الفطرة السوية التي جُبل الإنسان عليها، فالنبي ﷺ كان إذ رأى الشيء يعجبه يفرح، ويضحك، ويبتسم لما يعجبه ويسره، بل عد التبسم صدقة يؤجر المرء عليها بقوله ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» (رواه الترمذي).

كما كان ﷺ يفرح بالمناسبات المفرحة التي تمر عليه، وسنَّ هذا الفرح كالفرح بالمولود، والفرح بالزواج، والفرح بالنجاح في عمل أو دراسة، والفرح بالسلامة والعافية من داء أو بلاء، فكلها وأمثالها من الخير والرزق من أسباب الفرح التي جبل الإنسان على السرور بها.

ومن أسباب الفرح كذلك: الفرح الشرعي الذي ندب الشرع إلى إظهاره، كفرح المسلمين بأعيادهم في الفطر والأضحى، بتمام عبادتهم، وحلول عيدهم؛ فيكون ذلك سببًا في ذكر الله وشكره جل وعلا.

أيها المسلمون!

ومع أن الفرح غريزة في البشر أجمعين، لكن الناس يتفاوتون في مظاهر هذا الفرح بقدر مراتبهم في القرب من الله تعالى.

فمن الناس من يسرف في الفرح، فيعتريه الكبر والبطر والخيلاء، ولقد ضرب الله تعالى مثلًا لذلك بقارون في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ ۚ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76].

ومن الناس من لا يفضي به فرحه إلى أشر وبطر، لكنه مغبون في التماس الأجر من الله تعالى، فلا يكاد يذكر الله ويشكره إذا آتاه ما يفرحه ويسره.

أما الفائزون حقًا بالحسنيين، فهم الذين يفرحون بفطرتهم كسائر الناس؛ لكن ألسنتهم تلهج بالشكر لله تعالى، وقد آذنهم الله برضوانه وبالمزيد من نعمه، فقال الله جل وعلا: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].

فهؤلاء يفرحون في الدنيا كسائر الناس، ويفرحون في الآخرة بفضل الله ورحمته ورضوانه جزاء طاعتهم لله وشكرهم إياه؛ كما جاء في الحديث القدسي في فضل الصيام: «للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» (رواه البخاري ومسلم).

عباد الله!

ومما شرع الله تعالى كذلك لمن أتاه أمر يسّره: سجود الشكر لله تعالى، فقد كان النبي ﷺ إذا أتاه أمر يسرُّه أو بُشِّر به خرَّ ساجدًا شكرًا لله تبارك وتعالى (رواه ابن ماجه ).

وكما جاء في سنة نبيكم ﷺ، لما روى البيهقي أن عليًّا رضي الله عنه لما كتب إلى النبي ﷺ بإسلام همدان خرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه، فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان» (رواه البيهقي).

وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سجد شكرًا لما جاءته البشرى من ربه أنه: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلم عليك سلمتُ عليه (رواه أحمد).

وتأسى بالنبي ﷺ أصحابُه رضي الله عنهم، فجاء في الآثار أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قَتْلُ مسيلمة، وسجد علي رضي الله عنه حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج، وسجد كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه (رواه أحمد).

وهكذا يكون فرح المسلم عبادة، وسببًا لذكر الله وشكره.

أيها المسلمون!

وإذا تبيَّن لنا أن الفرح سبب لذكر الله تعالى وشكره، فمن باب أولى ألا يكون شيء من الفرح سببًا في معصيته جل وعلا؛ فللفرح ضوابط في الإسلام تحفظه من التعدي، وتجاوز الحدود، وارتكاب المنهيات.فلا يجوز أن يفرح الإنسان بحصول أمر محرم، كأن يفرح صاحب وظيفة بحصول وظيفة محرّمة، أو بمكسب مالي محرم، أو بعمل محرم، أو بما يؤدي إلى محرم، أو من في قلبه مرض بتمكنه من شهوة محرمة، أو غيرها من المحرمات، والعياذ بالله.

كما لا يجوز أن تخالف مظاهر الفرح أدلة الشرع، كما يحدث في حفلات الأعراس ونحوها من تجاوزات شرعية بدعوى الفرح والسرور والمؤانسة من المنكرات، كالاختلاط بين الرجال والنساء الأجانب، والتطيب من المرأة عند خروجها لهذه المناسبات، والتعري والملابس الفاضحة، حتى ولو كانت بين النساء.

ومن منكرات الأعراس كذلك: تجاوز اللهو المباح إلى ما حرم الله بإحضار المطربين والمطربات والراقصات، ونحو ذلك، وكذلك التصوير المحرم، وهو من أخطر الأمور، وأسباب البلاء، وهتك الأستار، وهدم البيوت العامرة، والعياذ بالله.

ومن المظاهر الباطلة في الأعراس أيضًا: منصة العروسين التي يجلس فيها الزوجان في حضرة الرجال الأجانب عن المرأة، والنساء الأجانب عن الرجل، وفي هذا من الفساد الكبير ما لا يخفى على أولي الأبصار.

ومن منكراتها كذلك: الإسراف والتبذير الذي لا يرضى الله تعالى عنه في النفقات، إلى حد أن بعض الناس يقترض لا من أجل الضروريات بل للتباهي والبذخ الذي ينتهي بإلقاء كميات كبيرة من الطعام في النفايات، فيما يطوي أناس من الفقراء على جوع وفاقة، وكفى وعيدًا على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].

ومن هذه المنكرات: السهر إلى وقت متأخر، الذي يفضي إلى إرهاق الأبدان والإضرار بالأطفال وتضييع صلاة الفجر.

فهل الإسلام في هذا من شيء؟! أو ليس فيما أحل الله غنية عن الوقوع في المحرمات والمنكرات في الأفراح لمن يخشى غضبه وعقابه؟!
وهل تُلتمس البركة في هذه المناسبة الكريمة، وبداية تأسيس بيت جديد بهذه المنكرات المخزية؟!

وإذا كان من نعم الله هذه الأيام في العطلة الصيفية انتشار الزواج وكثرته؛ فإن تمام النعمة أن يُجعل الفرح والاحتفال بها موافقًا للشرع، ومرضاة المولى سبحانه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وبسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، الرزاق ذو القوة المتين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون!

ومن آداب الفرح في الإسلام: استشعار أنه عبادة لله تعالى؛ فحياة المسلم كلها لله تعالى، والفرح ما هو إلا جزء منها، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۞ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].

كما أن من تمام استشعار أن الله تعالى هو المنعم بكل ما يفرح الإنسان ويسرّه: أن يذكره الإنسان في فرحه، ويشكره جل وعلا على ما منّ به عليه من النعم.
وإذا وُفِّق الإنسان إلى ذلك، فبالأحرى لا يطغى الفرح واللهو – وإن كان مباحًا – على الجد والسعي فيما ينفع المرء في دينه ودنياه.

ثم ليتذكّر إخوانًا له في بلدان مختلفة، لا يكادون يعرفون ابتسامة لأحوالهم، أو يتذوقون طعم فرح، فأفراحهم انقلبت إلى أحزان.

فليكن فرحك – أخي المسلم – دافعًا لأن تُفرح يتيمًا فقد أباه، وأرملة فقدت زوجها، وأسرة هُدِم بيتها، وعائلة لم تجد ما تُطعم به أفرادها؛ فشعورك بهذا يزيد فرحك في الدنيا والآخرة، وهو من الشكر الذي يزيدك في الدنيا والآخرة.

عباد الله!

لقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا نعمته، ووضع لنا منهاجًا متكاملًا لكل شؤون الحياة؛ فلن تستقيم حياة امرئ وتطيب إلا بطاعة الله، واتباع سنة نبيه ﷺ في شؤونه كافة.

ولقد كان نبينا ﷺ كثير التبسم، ذا مداعبة لأصحابه وأهل بيته رضي الله عنهم، وملاطفة للأطفال، فكان هديه ﷺ في ذلك أكمل هدي وأتمه، فمن اقتفى أثره في ذلك سعد في الدارين بفضل الله ورحمته.

فلننشر سنة نبينا ﷺ وهديه الكريم في جميع شؤون حياتنا، بالتناصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فيما بيننا، والدعوة إلى الله على بصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكذلك بتربية أولادنا على هذه الشمائل النبوية الكريمة؛ حتى نجمع الخيرين، ونفوز بالحُسنيين، ونسعد في الدارين بفضل الله ورحمته.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأفعال، لا يصرف سيئها عنا إلا أنت.وصلوا وسلموا على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، كما أمركم الله جل وعلا في كتابه الكريم بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾