
ولدي الحبيب:
إنها كلمات أعلمك إياها لتكون لك نبراسًا في حياتك الدنيا، تنير لك الطريق، وتكون لك دليلًا ومرشدًا إلى البارئ ﷻ، في الامتثال لأوامره وأحكامه، والانتهاء عن نواهيه وزواجره، وإنها كلمات الحكماء والعقلاء لأولادهم وذراريهم منذ القدم، وقد ورد ذكر بعض هذه الكلمات والوصايا في كتاب الله تعالى لبعض هؤلاء العقلاء المؤمنين الذين فهموا الحياة بعد أن عرفوا الله ﷻ، فها هو لقمان الحكيم يوصي ابنه بأجمل الكلمات وأمتن العبارات، التي تجمع في ظلالها العقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك، يقول الله تعالى على لسانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، ويقول ﷻ: ﴿يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ۞ يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ۞ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۞ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 16 – 19]. وقد علمنا رسولنا القدوة ﷺ أن نوصي بعضنا بعضًا وأن نكون كالمرآة لإخواننا المسلمين حتى تتحول أقوالنا إلى أفعال، وتكتمل شخصيتنا الإسلامية، ويبرز دورنا الفعلي في واقع الحياة ونكون على المستوى الذي وصف الله سبحانه وتعالى به المؤمنين الصادقين: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110].
إنها كلمات مقتبسة من كتاب الله ﷻ وهدي المصطفى ﷺ: من أنت؟ وما مكانتك عند والديك؟
أيها الولد: أنت مهجة الفؤاد وفلذة الكبدة، لو علمت مقدار الحب الذي في القلب يعليك ويدنيك وفي أناسي العيون يحفظك ويبقيك، لو كنت تعلم سمو منزلتك في النفس، فأنت أيها الولد ثمرة الفؤاد وعماد الظهر.
القلب لك أرض ذليلة وسماء ظليلة، أودع الله ﷻ فيه من حبك ما لم يحتج الأمر معه إلى أن يوصيني بك، فتراني أعطيك دون أن تسأل، وأرضيك دون أن تغضب، وأرى فيك الأمل المقبل المشرق، والمستقبل المزهر الموفق، وأخشى عليك العوادي فأحفك بالدعوات أرفعها لبارئك ليحفظك من كل سوء ومكروه، ويوفقك ويسددك لكل خير مرموق، أو ما سمعت قول ذلك الوالد الحاني الحنون:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تـمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم امتنعت عيني من الغمض
أوَلا تذكر ما كان يتمثل به الصحابي الجليل عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) لمن كان يلومه في حب ابنه سالم:
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
أنت الريحانة التي لا يُمل شمها أرى بهجة الدنيا في طلعتك
وأحس بشتى ألوان السعادة إن أشرقت أنوار بسمتك.
ولدي الحبيب، ما وظيفتك؟
لقد جاء بك الله سبحانه وتعالى إلى الدنيا لغاية هو يعلمها، وأناط بوجودك مهمة عظيمة في رحاب كونه الفسيح، وهي عبادته سبحانه وتعالى فهو القائل جل شأنه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۞ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 56 – 57].
ومن أهم موجبات هذه العبادة إقرار العبودية لله وحده، والدعوة إلى دينه الحنيف في المكره والمنشط، وهو عمل يثقل الكواهل والظهور، ولا يتحمل تبعاته إلا الرجال من البشر، فهي أمانة الله ورسالته للناس، التي عرضت على السموات الفسيحة والجبال الراسيات فأبين أن يحملنها، ولكن الإنسان استجاب لتلقي هذا العبء الثقيل والأمر العظيم، فكان نزول هذا الدين الخالد، يقول رب العالمين: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، لذا كان جزاء الدعاة إلى الله عظيمًا ومنزلتهم رفيعة وكريمة عند المليك الأعظم تبارك وتعالى.
وقد هيأ الله تعالى –من قبل– لهذا الأمر من الرسل وأتباعهم ليكونوا لنا أسوة وقدوة تُحتذى، ونسير على نهجهم، ونالوا في طريق هدايتهم للناس ألوانًا من التعب والمشقة، فلم يثنهم عن المضي قدمًا في هذا الطريق، بل كان الإيمان في قلوبهم يقوى ويتزين كلما اشتدت بهم الأزمات والنوازل وهذا ما قال عنهم ربهم: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، وسيبقى الأمر هكذا إلى أن يرث الله ﷻ الأرض ومن عليها.
منهجك في الحياة:
اعلم أيها الولد: أن الحياة من غير نظام عادل ودستور منير، غابة يعمها الفوضى والظلم، وتسودها الأنانية والخصام، فتكون القوة سيد المواقف، ويكون البقاء للأقوى وليس للأصلح، وهذا أمرٌ خطيرٌ يهدد استقرار الحياة وأمنها، وقد مرت البشرية كثيرًا بمرحلة فقدان القانون والدستور، فوقعت في أنواع العذابات وأصناف الحروب والمعارك، وانظر إلى هذا العصر المجمل بالتقنيات الباهرة ووسائل الراحة المتعددة، والتقدم العلمي الساحق، إلا أن الناس يفتقدون إلى نظام ومنهجية في حياتهم الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، ذلك النظام الذي يُسعد الإنسان في نفسه وبدنه، ويمنحه حقوقه التي افتقدها في ظل الجبروت الذي يحكم العالم حسب أهوائه وأنانيته.
من أجل ذلك –يا ولدي– عليك بتحديد مسارك في الحياة، واختيار المنهج الذي يسعدك ويسعد الناس، وهذا المنهج هو ما اختاره الله ﷻ لنا في الحياة بحكم أنه الخالق الذي يعرف أسباب سعادتنا وأسباب شقائنا، وهو دين الإسلام الذي جعله الله ﷻ المنهج الأوحد للناس وفطر عليه الإنسان على هذه البسيطة، فقال ﷻ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19].
واعلم أيها الولد أن من يأخذ بغير هذا الدين، يصيبه الخسران في الدنيا والحرمان في الآخرة، حيث يقول الباري ﷻ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 124].
وصدق الشاعر حين قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
علاقتك بخالقك:
أيها الولد: اعلم أن لك إلهًا، خلقك ثم سواك فعدلك، وفي أي صورة ما شاء ركبك، خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رَجُلًا، إنه الله رب العالمين، وخالق السموات والأرضين، والكون جميعًا قبضته، وإذا قال لشيء كن فيكون، هو الأول والآخر، والظاهرة والباطن، وهو على كل شيء قدير، إنه الذي خلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى.
لذا كان لزامًا عليك توحيد هذا الخالق وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، فهو المعبود الذي لا معبود بحق سواه، فلا تُقدم الطاعات والعبادات إلا له وحده، ولا يستعان ولا يتوسل إلا به وحده، فهو القوي فوق كل قوة، والجبار فوق كل جبروت، وعنده خزائن السموات والأرض، ومن أراد أن يتصل بقوة أبدية تعينه في الخطوب، أو بالرحمة الواسعة تزيل عنه أدران الخطايا، فعليه بالتواصل مع هذا الخالق الذي بيده الأمر كله والقائل في محكم تنزيله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96].
ولا تنس أيها الولد: أن تعظم هذا الإله وتكبره وتجله وتحمده وتشكره، في حلك وترحالك، وسرك وعلانيتك، وأثناء النعم وعند البلاء، وحسبك -أيها الحبيب- علمًا بأنه جاء في الحديث أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، فقالا: يا ربنا إن عبدًا قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله -وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ فقالا: يا ربنا إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها.
علاقتك بالناس:
أيها الولد الحبيب: إن من أهم القربات إلى الله تعالى، ومن أجَلِّ الأعمال إليه، هي حسن الخلق مع الناس، والمشي في قضاء حوائجهم والتستر على عيوبهم، وإصلاح ذات بينهم، وتقديم النصيحة لمخطئهم، وتشجيع مصلحهم، وتفريج الكرب عن مكروبهم وغيرها من العمل الصالح الذي أمر به الله عباده، وتظهر هذه الدعوة جلية في قول المصطفى ﷺ: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
الصلاة التي فرضت عليك:
أيها الولد: اعلم أن الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وخلق ما شاء فيهن من المخلوقات، كلها آيات عظمته وجلاله، واعلم أن هذا الخالق قد فرض صلوات على عباده في أوقات معلومة في اليوم والليلة، حتى لا ينقطعوا عنه والوقوف بين يديه بذل وافتقار، والتعهد معه في كل هذه الأوقات على السمع والطاعة والاستعانة به وحده، لأنه المعبود الذي يستحق العبادة دون غيره، لذا كان أهم ركن في الإسلام بعد الشهادة هو الصلاة، قال الله ﷻ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103].
وقد أوصى الرسول ﷺ في كلماته الأخيرة وهو يودع المؤمنين بالصلاة لعظم شأنها وعلو مكانتها عند الله تعالى، فقال ﷺ: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم».
وإنما فرضت الصلاة لتقام في المساجد لا أن تؤدى في البيوت والحجرات، لصيغة الجمع التي وردت في الفاتحة، كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ ﴾ و﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾ مما يدل على أن الأصل في الصلاة الجماعة لا الفرد، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من هجر المساجد، فقال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلًا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء».
فكن من المواظبين على أداء صلواتك كلها في بيوت الله، واجعل قلبك معلقًا بهذه الصلوات لتكون في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
طهر نفسك:
أيها الولد: اعلم أن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربك، وأنها مدخل من مداخل الشياطين على الإنسان، فزكِّ نفسك بالعبادة، وجملها بذكر الله في معظم أوقاتك، فإن ذلك يزيل أدران الخطايا، وبقايا الذنوب، ثم اعلم أن ذلك من أسباب حسن خاتمتك ورضا الله سبحانه وتعالى عنك، ونوال جنته ورحمته، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ۞ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ﴾ [النازعات: 40 – 41]. وقال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۞ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7 – 10].
والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وإن لم تحاسبها في الدنيا أثقلتك بالعذاب في الآخرة، واذكر قول النبي ﷺ: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها ثم تمنى على الله»، وقال عمر (رضي الله عنه): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا».
واعلم أن من أمراض النفس: الكبر، والحسد، والحقد، والغرور، ألم يكن إخراج إبليس من الجنة وطرده من رحمة الله ﷻ بسبب داء الغرور والكبر والحسد حين رفض أمر ربه بالسجود لآدم: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 34]، ثم ألم يكن قتل قابيل لهابيل إلا بسبب داء الحسد والحقد: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].
حتى قال أحد الحكماء:
كل العداوة قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك عن حسد
فكن على حذر –أيها الولد– من هذه الأمراض، وليكن لسانك رطبًا بذكر الله، فإنه وقاية لشرور الشياطين وهمزهم ولـمزهم.
أوقاتك وكيف تقضيها:
واعلم أيها الولد: أن الوقت نعمة ثمينة من الله، فحافظ عليها واستثمرها فيما يرضي هذا الإله، ولا تدع للهو واللعب منها أدنى نصيب، فأنت محاسب على حياتك كلها، أقوالًا وأفعالًا، ولا تُسرف في هذه النعمة التي أجلها الله وقدرها حيث أقسم بها في كتابه الكريم: ﴿وَٱلْعَصْرِ ۞ إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: 1 – 2]. ويقول رسولنا ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه». ويقول حبيبنا ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ». لذا جعل الله ﷻ هذه الدنيا، التي تجري بالزمن، دار تنافس وسباق لفعل الخيرات وهجر المنكرات، فقال: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].
فكن أيها الولد الحبيب ممن يرضى الله عنهم بعدم إهمال نعمة الوقت والفراغ، واجعل كل أوقاتك لعمارة أرض الله بالدعوة والإصلاح فأنت خليفة الله ﷻ ورسول دعوته. ثم اسمع أيها الولد: من علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه، وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خُلق له لجدير أن تطول عليه حسرته، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار.
قيمتك في ذاتك وليست في جاهك ومالك:
أيها الولد: إن قيمتك الحقيقية في نفسك التي تسكن بين جوانحك، وما تحمله من المعالي والأخلاق، وليست بمظهرك الخارجي، في دراهمك المتراكمة، وقصورك الواسعة، ومراكبك الفارهة، فإنما هذه متاع الغرور يزول بين لحظة وأخرى، وقد أخبر عنها الباري ﷻ في آيات متعددة في محكم تنزيله: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]. وقد عبر الصادق الأمين ﷺ عن حقيقة الغنى والثراء في الإنسان بالقناعة التي تملأ القلب راحة وطمأنينة، فقال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»، وقال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه»(). وحذر ﷺ الأمة بالانشغال بالدنيا أكثر من انشغالها بالآخرة بالعاقبة المريرة والخسران العظيم، فقال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم». فلتكن القناعة قائدك في الحياة فإنها كما قيل: كنز لا يفنى.
الموت قادم لا محال:
وأخيرًا أيها الولد: نهايتك ونهاية كل إنسان في الحياة هي الموت، الذي يصير إليه كل حي، ونهاية كل كائن في كون الله ﷻ ، فإنه يلاحق الصغار والكبار، والنساء والرجال، ولا يعرف غنيًّا أو كبيرًا، وإنما يختار ما يشاء الله ﷻ أن يموت، فلا يفلت منه أحد، فأين الأمم السابقة، والقرون الأولى؟ بل أين الجبابرة والزعماء؟ وأين سلطانهم وهيلمانهم؟ ذهب جميعه مع الموت، ولم يتركوا خلفهم إلا الأثر الطيب أو الأثر الخبيث، يقول الله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78].
ويقول الشاعر:
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
ويكفيك أيها الولد هذه الحقيقة واعظًا كما خاطب بذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نفسه، وكلما كنت قريبًا من هذه الحقيقة وكنت منفعلًا معها، كلما ازددت قربًا من الله سبحانه وتعالى، لأنك تعلم بلا ريب أنك آيب إليه عبر الموت، فإياك أن تغفل عن الموت لحظة، فإن الغفلة عنه، غفلة عن الله ﷻ وعن دين الله ﷻ.
هذه -يا بُني– كانت بعض الوصايا التي جالت بخاطري، وأردت أن تصل إليك وأنت في ريعان شبابك، لعلك تكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والكلام يا بني كثير وأخشى أنني أطلت عليك فتمل مني، ولعلي أجد فرصة أخرى لأفرغ لك ما في جعبتي مما كسبته من القرآن والسُّنة وتجارب القدوات وأحوالهم، وتجاربي الشخصية علها تكون نافعة لك ولإخوانك ولأبناء جنسك وألقاكم على خير ومحبة.
وأسأل الله تعالى أن أراكم جميعًا في كل مصاف القدوات لنفع أنفسكم وأسركم ومجتمعكم وأمتكم الإسلامية.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...