
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ لله سبحانه وتعالى سننًا عظيمة في هذا الكون تجري على العباد والبلاد، تحت كل سماء وفوق كل أرض، سنن لا تتخلف، وفقه هذه السنن يعين المسلم الذي ينشد الحقيقة والخيرية للوصول إلى أهدافه وغاياته، وتحقق له الطمأنينة والأمن في هذه الحياة، وما بعد هذه الحياة، كما أن فقهها والعمل بمقتضاها يحقق النصر والتفوق، والغلبة والظهور على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمعات.
وإنَّ غياب فقه هذه السنن يؤول بصاحبه أو بأصحابه إلى الفوضى، والاضطراب والتأخر، والقلق والهزيمة، والتراجع، واليأس، والقنوط، ومن هنا فإنَّ دراسة هذه السنن واستنباطها من القرآن الكريم، والسُّنة المطهرة، ودراسة المنهج السليم في تطبيقها على أرض الواقع تُعين في رسم منهج المسلم وهو يسير في دربه إلى الله تعالى، وينشد العلو والتقدم في هذه الحياة.
من السُّنن المهم فقهها: سُنة التدافع بين الحقِّ والباطل، والحق هو: الواجب والصحيح والثابت شرعًا اعتقادًا وقولًا وفعلًا، والباطل: ضده فهما ضدان يتدافعان، فكل حق ضده باطل، وكل باطل ضده حق ولا يجتمع الضدان، والتدافع بينهما يعني محاولة غلبة كل منهما للآخر، وهذا يتمثل بمدافعة أصحابهما لأنهم الذين يحملونهما.
وهذا التدافع أمر لا بد من وقوعه، فلا يمكن بقاء أحدهـما إلا ويغالبه الآخر، يقول تعالى مقررًا هذه السُّنة الكونية: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251].
والله جل وعلا وهو يقرر هذه الحقيقة فهو يكون مع الحق مؤيدًا ونصيرًا، يقول تعالى: ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ [الشورى: 24]، ويقول سبحانه: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]، ويقول سبحانه: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].
ومما يُستقى من الآيات: أنَّ النتيجة الحتمية للحق، ولكن لا تكون هذه النتيجة إلَّا إذا اجتمعت عوامل العمل بالحق.
ومن هنا أمر الله تعالى في آيات متعددة المؤمنين بأن يعملوا بهذه العوامل، ومن أهمها :
- إيمان أهل الحق به، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] وقال سبحانه: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 19] وقال سبحانه: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7].
- العمل بالأسباب الماديَّة بالضوابط الشرعية، يقول تعالى في شأن الجهاد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وهكذا كل حق يحتاج إلى مباشرة أسبابه، فالدعوة تحتاج إلى العلم، وإلى الإمكانات الماديَّة المناسبة بما يقيم شأنها فلا يتصور -مثلًا- عمل مشروع دعوي يراد به نفع الآخرين بدون عمل الأسباب الممكنة المؤدية إلى نجاحه، كما هو الشأن في جميع شؤون الحياة.
- تقوى الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره، واجتناب نواهيه فهي سبب كل خير ودفع كل شر، قال تعالى في شأن العلم: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: 29] ،وقال تعالى في بيان شيء من تفضله تعالى على المسلمين في غزوة بدر: ﴿ بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125].
- التحلي بالصبر، وإعماله في كل عمل، فبدون الصبر تتخلف النتائج الإيجابية، وتضعف، ويحصل الاستعجال، وتكون العواقب وخيمة، وقد جاء ذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعًا، كل ذلك لعِظَمِ هذه السمة وعِظَم أثرها، وبناء على ذلك لا ينتصر أصحاب الحق بدون أن يصبروا ويصابروا.
- الإكثار من ذكر الله تعالى، فمن ذكر الله تعالى ذكره الله وأيَّده وأعانه، وأحاطه بعنايته ورعايته، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
- الثبات على الحق والتواصي على ذلك، وهذا يعني عدم الاضطراب في الإيمان بالحق، أو العمل به، أو التردد، أو عدم الاستقرار على منهج واضح يسير عليه صاحب الحق، كل هذه من نوافي الثبات وزعزعة صاحب الحق وإضعافه.
وبعد: فالتدافع بين الحقِّ والباطل سُنة من سُنن الله تعالى يجب الإيمان بها والتعامل معها وفق شرعه الله تعالى.
ولذلك جاء مبدأ الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح، والنصيحة، وقول الحق، والتعاون على البِرِّ والتقوى، والنهي عن التعاون عن الإثم والعدوان، ونفع الآخرين، والإحسان إليهم.
هذه المبادئ كلها تصب في نصرة الحق ومدافعته للباطل، وعلى هذا: مما يزين المسلم الحصيف العمل بهذه المبادئ والعظيمة، والعمل بها، وأخذ نصيب وافر منها لينضم في سلك أهل الحق، ومدافعته بالباطل، فيكون عند الله تعالى من أهل اليمين، ومع هذا كله لنعلم أن مدافعة الباطل يحفها عوائق، من أهمها:
- تسويل الشيطان لإضعاف النفوس عن قول الحق والعمل به، وقد جاء هذا المعنى في كتاب الله ﷻ في مواضع كثيرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
- المقاصد المنحرفة في قول الحق والعمل به كقصد الرياء، والسمعة، أو أمر من أمور الدنيا فـ«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، وكثيرًا ما تحبط المشاريع، ويهزم أهل الحق بانحراف المقاصد.
- العجب بالنفس والغرور سواء بما أعطى الله سبحانه وتعالى العبد من القدرات والمواهب، أو بما أنعم عليه من النِّعم، ويتبع ذلك ازدراء الناس واحتقارهم وغمط حقوقهم واستنقاص مشاريعهم، كل هذا من حواجز الفوز، وموانع الوصول إلى النتائج الإيجابية في نصرة الحق.
- النزاع والاختلاف والفرقة وهي من أعظم الآفات، وأشدِّ الأمراض وأقوى العوائق لنصرة الحق، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] ولا يقولن قائل إن الخلاف رحمة، فالخلاف في الأصول، والمجمع عليه، كل ذلك شر، كما وضحته في مقالات سابقة.
ومما سبق تتجلى لنا سنة الله تعالى في التدافع بين الحق والباطل فإدراك هذه السُّنة، والعمل بما يوافقها من عوامل نصرة الحق، ودفع الباطل، والوصول إلى الأهداف الإيجابية والبناءة.
ومن هنا على المسلم والفرد، والمؤسسة بناء المشروعات وفق هذه السُّنة وغيرها من السنن لتطمئن إلى الوصول إلى ما ترجوه من كل خير.
حقق الله الآمال وسدد الخطى.
والله من وراء القصد.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...