home-icon
ما تعلمته من مشايخنا – المقصود

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد سبق في الحلقة الأولى من هذه الكلمة ذِكر بعض القيم والمناهج، ووسائل التعامل مع الحياة، وذكرت فيها أنني أذكرها من غير تكلف في الأسلوب، أو التنميق في العبارات أو حتى ترتيب الأفكار، كل ذلك لتبقى على طبيعتها، ولكل من الطريقتين حسناتها، وآن الأوان للشروع في المقصود.

فمما تعلمته منهم ما يلي:

النظرة الشمولية للأشياء والأحداث، وهذا يعني النظرة بتوازن بين المصالح والمفاسد الخاصة والعامة.

ولا شكَّ أنَّ التربية على هذه النظرة مؤصلة في الشريعة، ومن ذلك ما حدث في عهد النبي ﷺ من جملة أحداث تؤكد أهمية التعامل وفق هذه النظرة، كقصة بناء الكعبة، فالنبي ﷺ أخبر أن قومه قريبو عهد بكفر، ولولا هذا لهدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، لكن لم يفعل خشية حدوث مفاسد عظيمة، لأن القوم قريبو عهد بكفر ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم. وكذلك جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام: 108] فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين؛ لأنَّ هذا السب قد يجر إلى ما هو أشد، وهو أن يسبوا الله جل وعلا.

ومن ذلك أنَّ النبي ﷺ لم يعاقب المنافقين خشية أن يقال: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه.

وغير ذلك من الحوادث الكثيرة التي تؤكد تأصيل هذه النظرة العميقة. وهذ كله تعلمته من مجالستي المذكورين وعلى رأسهم سماحة الإمام عبدالعزيز بن باز رحمهم الله جميعًا.

من أهم الأهداف التي تعلمتها من مشايخي، ويركزون عليها في أحاديثهم، وأعمالهم، وميزان أولوياتهم: اهتمامهم بجمع الكلمة، والحرص على وحدة الصف، وتوحيد التوجه، وذم التفرق، وتشتت الجهود، تجد ذلك واضحًا في دروسهم وكتاباتهم ومحاضراتهم ونصائحهم، لا يوارون في ذلك ولا يجاملون، بل قد يتنازلون عن بعض القضايا القابلة للنظر في سبيل جمع الكلمة، وهذا كثيرًا ما كان يركز عليه مشايخنا، وما زال العلامة صالح الفوزان يؤكد ذلك، وفقه الله وسدده.

ولا شكَّ أنَّ هذا يعضده التأصيل الشرعي لسلامة المجتمع وتربيته على الفضائل، وقطع دابر الشرور والآثام، وسدّ الأبواب التي يلج منها الشيطان للنفوس، أو المجتمع، يقول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران: 105]، ويقول سبحانه في سورة المائدة: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة: 2].

ولا شكَّ أيضًا أن المعصم الذي تتوحد فيه الكلمة هو الكتاب والسُّنة ممثلًا بولي الأمر، والعلماء الربانيين، وجاء التعبير عن ذلك صريحًا في كتاب الله جل وعلا وسُنة رسوله ﷺ تارة بلفظ الطاعة، وبلفظ التمسك بحبل الله والعض على الجماعة، والنهي عن الشذوذ والفرقة وغيرها، وهو ما يستدعي إظهار أهمية هذا الأمر، واستشعار أثره إيجابًا وسلبًا، وعدم التساهل في مخالفته، وأن هذه المخالفة قد تستجلب آثارًا سلبية كبرى يعود أثرها السلبي على الأفراد والمجتمع، وهذا لا يخالف مبدأ الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وضوابطه، فهذا المبدأ عاصم آخر لوحدة المجتمع وسلامته من الشرور والرذيلة.

الحرص على المواصلة في طلب العلم والتعلم، حتى إنَّ سماحة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله في ليلة وفاته كان جالسًا للناس في منزله بالطائف متحدثًا ومفتيًا ومتابعًا لمعاملاته، وهذا فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله في مرض موته، وشدة المرض عليه لم يترك درسه في المسجد الحرام مع تقطع الكلمات والمعاناة، وهذا مسجل وموجود، وهذا معالي الشيخ صالح الأطرم رحمه الله في مرض موته يجلس في حجرة مسجده بالرياض ليقرأ عليه بعض تلاميذه رغم ضعفه مع المرض، وهذا معالي الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله لم يترك القلم طيلة مرضه.

هؤلاء يلقون لطلابهم وتلاميذهم درسًا عمليًّا واضحًا لأهمية الاستمرار في طلب العلم وأهله مما نلقي بظلاله على تقديرهم لأهمية العلم وفضله وعلو منزلته، وكبر شأنه حتى مع اختلاف الأحوال، وضعف الإنسان وكبره، وهذه رسالة عملية واضحة المعالم للأجيال اللاحقة لحسن الاقتداء والتأسي، وهذا يذكرنا بما قرأناه في المرحلة الابتدائية من الحكمة العظيمة: «طلب العلم من المهد إلى اللحد».

وإلى لقاء آخر مع ما تعلمته من مشايخي. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.