
في المقال السابق تطرقنا إلى هذه القضية المهمة، قضية البناء في هذه الحياة، والمنطلق من هدف وجود الإنسان وهو عمارة الكون في هذه الحياة، هذا الهدف يملي واجبًا عظيمًا، وهو أن يشتغل الإنسان في البناء في أي مجال من المجالات التي يتقنها فيسهم فيما يستطيع فيكون عامل بناء ضمن منظومة هذا الكون الفسيح العامر.
إن من المهم جدًّا والإنسان يسعى ويجد في سعيه في جميع مرحلته العمرية أن يعي هذه الحقيقة المهمة التي يترتب عليها سعادته وطمأنينته في هذه الحياة كما يترتب عليها سعادته في الآخرة.
غير أن من المهم أيضًا إدراك حقيقة أخرى قد يعلو الإنسان بطموحه وتفاؤله، ويحلق في أجواء هذه الحقيقة، فيصطدم بالواقع الذي يعيشه فيصيبه شيء من ردود الفعل المقعِدة عن العمل والإنتاج.
أو قد يسيطر عليه بعض جزئيات متطلبات هذه الحياة فينسى هذه الحقيقة الكبرى حتى يفاجأ بنهايته من هذه الدنيا ولم يسجل في سجله إلا مقدار ما أكل وشرب ولبس، إلخ.
تلكم الحقيقة هي: أن هذه الحياة بعظم أهداف الإنسان العليا المقررة له، والتي أوضحها الله جل وعلا كما سبق في المقال السابق، إلا أنها بنيت مسيرتها على «كبد» أي مشقة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4] كما بني الإنسان على النقص وعدم الكمال، قال ﷺ: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
كما جبلت مسيرة الموفقين على وجود الابتلاءات والمحن –أيًّا كانت– يقول ﷺ: «خير الناس الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الناس على قدر إيمانهم». ويقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2].
إن إدراك هذه المعاني الكبيرة يجعلنا نقف وقفات متعددة لئلا تقف مسيرة البناء، ولكي لا تتعثر تلك المسيرة بأدنى درجات الإعاقة:
إدراك هذه الحقائق الكبرى، وهي أن الحياة بنيت على كبد، وأن الإنسان محل للخطأ والتقصير، وأنه معرض للابتلاء، إن إدراكه لهذه الحقائق يعينه على تجاوز العقبات ومواصلة مسيره، وقوة تحمله، ومن ثم يورث له الطمأنينة والسكينة، والدافع القوي لمواجهة تلك الصعاب، ولذلك جاءت النصوص الشرعية من القرآن والسُّنة للتأكيد على هذه الحقائق، بل أبعد من ذلك ما قصه الله سبحانه في قصص السابقين من الأمم عندما أخلت بهذه الحقائق فجازاها الله جل وعلا الجزاء الأوفى كما في قصة قوم نوح وعاد وثمود وغيرها.
أن مسيرة البناء لا تمنع من وقوع الأخطاء والتقصير في مسيرة الفرد نفسه، أو المؤسسة، أو المجتمع بعامة، وهذه –كما سبق– سُنة من سنن الله تعالى في هذه الحياة، ولذلك ليس من العيب وقوع الخطأ والتقصير، ولكن المهم معالجة هذا الخطأ والتقصير، وبالطرق المناسبة للعلاج لتتكامل مع مسيرة البناء، ولا تؤثر على هذه المسيرة فيكون الشغل الشاغل للإنسان تتبع هذه الأخطاء ومعالجتها. ويؤيد هذه المسار ما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من الجمع بين الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف يمثل البناء، والتقدم في كل ما فيه مصلحة دينية أو دنيوية، والنهي عن المنكر يمثل تصحيح ما قد يقع من الأخطاء في مسيرة البناء، إن الجمع بين المسارين هو القائد إلى التكامل، والضامن بعد توفيق الله تعالى من عدم تعثر المسيرة البنائية في جميع المستويات.
من الخير للإنسان نفسه أن يتحسس مواطن الضعف لديه، أو مواطن الضعف في مشروعه، وأن يبرزها أمامه لكي يستطيع أن يعالجها بالصورة الحقيقية التي تعزز مكانة البناء والوصول إلى أهدافه.
إن كثيرًا مما يتم في هذا الجانب يكون في احد هذه المحاور:
- عدم التدقيق في معرفة نقاط الضعف مما يسبب الجهل بها، ومن ثم تكبر من حيث لا يشعر صاحبها أو لا يشعر بضعف، وهذا من شأنه أن يضعف البناء نفسه.
- أو أن الإنسان يعرفها ولكن يغض الطرف عن محاولة التصحيح، ويطغى عليه بعض الجوانب الإيجابية، ويبرزها أمام عينيه، أو عند الآخرين إذا كان عملًا مؤسسيًّا، وهذه النظرة كفيلة ببناء ضعيف مهلهل، فالنظرة للإيجابيات فحسب كفيلة بهذا البناء الضعيف، وهذا للأسف هو الطاغي على حالة كثير من الأفراد، أو المؤسسات، أو المشروعات، لذا نلحظ بعض الفشل، أو التأخير في كثير من المشروعات البنائية.
- أو أن تدرك نقاط الضعف لكن يَضعُف الاستعداد لها، أو يَضعُف التخطيط للتعامل معها، ومن ثم تتراكم حتى تصبح معضلة أو معضلات في مسيرة البناء.
ومن الخير أيضًا أن يُتعامل في معالجة الأخطاء بالمنهج النبوي القائم على طلب الحق والخير، وعلى الاتساق مع منظومة البناء المتكاملة، ومن معالم هذا المنهج:
- النية الطيبة في بيان الخطأ ودراسته.
- تصوير الخطأ بحجمه الطبيعي فلا يحجم تحجيمًا يقلل من النظر إليه، ولا يكبر تكبيرًا يطغى في معالجته على أصل البناء.
- إدراك الخطأ دون قلب لتصوراته، فيصبح الصواب خطأ، والخطأ صوابًا.
- الحكمة بمعناها الحقيقي في معالجة الأخطاء حتى لا تتوتر هذه المعالجة على مسيرة البناء، ومن الحكمة: الرفق، واللين، وبُعد النظر، ومعرفة المآلات والنتائج المتوقعة، وعدم العجلة، وكذا عدم اتهام الآخرين، والاستهزاء بهم، والدخول في نواياهم، ومن ذلك: الصبر والتحمل، والنظرة الفاحصة، وإعمال القواعد الشرعية في النظرة التوازنية بين المصالح والمفاسد فيعمل على تكثير المصالح، وتقليل المفاسد، ومما يساعد في توخي الحكمة: التشاور مع أهل الخبرة، والتأني في المعالجة والاستخارة ومعرفة الزمان والمكان وحجم المشروع الذي يعمل فيه الإنسان، وهكذا.
من الوقفات:
إن مما ينبغي -ونحن في موضوع المعالجة- أن ندرك أن كثيرًا من المفارقات في معالجة الأخطاء في مفاهيم «الأخطاء»، ومتى يكون خطأ؟ ومتى لا يكون خطأ؟ وبمعنى آخر: المشكلة تكمن أحيانًا في تصور الثغرات، والأخطاء التي تحتاج إلى معالجة وتصحيح، وما المرجعية في الحكم على الخطأ والصواب ونحو ذلك، ولذلك نجد من أهم القضايا التي ركز عليها القرآن الكريم، وكذا النبي ﷺ في سيرته وسنته إبراز هذه المفاهيم، مثل: مفهوم «الإصلاح» أبرزه الله تعالى بصورة واضحة كما جاء في دعوى المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11] قال ﷻ: ﴿أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12]. فجعلوا قيامهم مع المشركين ضد محمد ﷺ إصلاحًا، ولكن الله ﷻ جعله إفسادًا، ومثله مصطلح: «الحق» و«الباطل»، وغيره كثير مما يصعب حصره في هذه العجالة، لكن المقصود أن يحرر الإنسان مشروعه لكي تستمر مسيرة البناء مع معالجة الأخطاء بمفاهيمها الحقيقية، وأحسب أن هذا في غاية الأهمية، إذ هو منطلق من المنطلقات المهمة في حسن سلامة المسيرة. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وسدد الخطى.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...