فلسطين

الحمد والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

مهما حاول الإنسان المسلم أن ينشغل بأي قضية أو مسألة من المسائل يرجع ذهنه إلى قضايا تشغل بال الأمة بأجمعها، ومنها قضية فلسطين التي ما إن تهدأ قضاياها في فترة من الزمن حتى تعود في فترات قادمة بأحداث جديدة وأوجه مختلفة!

ونحن هنا في موقع شبكة السُّنة النبوية وعلومها جزء من المسلمين الذين تشغل بالهم قضايا الأمة وهمومها، مع ما ندبنا إليه أنفسنا من التخصص في هذا الموقع فيما يتعلق بالسُّنة والسيرة وعلومهما والدفاع عنهما، ومن وجه آخر نعتقد أنَّ هموم المسلمين جزء مما نُدبت إليه السُّنة النبوية في مثل قوله ﷺ: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» وفي قوله ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك بين أصابعه. وغيرها من النصوص النبوية الكريمة المعتمدة أيضًا على كتاب الله تعالى في مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10] وعليه لم نخرج من قضايا التخصص في السُّنة النبوية، ولكن لعلنا نطرح في هذه الكلمات شيئًا مما يتعلق بهذه القضية المصيرية التي اشتعلت أحداثها في الأيام الماضية، من وجه آخر غير ما يظن القارئ أن يتجه الكلام إليه من وصف ما وقع بين الفلسطينيين أنفسهم، وتصويب فريق على آخر، وبيان أخطاء فريق دون آخر، ونحوها من المسائل، ومن هنا لعلنا نشير إلى بعض الوقفات الموجزة التي تهم المسلم الفرد بالدرجة الأولى، ونختم بما يتعلق بالأمة أجمع.

الوقفة الأولى:

لا يشكُّ أن أي مسلم يرى أي بلد مسلم تقع فيه فتنة يشعر أنه جزء لا يتجزأ منه، فضلًا على قضية فلسطين، وفيها المسجد الأقصى الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، ونوهت السُّنة في بيان فضل الصلاة فيه، ومكانته في الإسلام معلومة، إذ هو ثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله ﷺ، وقبلة المسلمين الأولى، فيشعر المسلم بأنه جزء من عقيدة يجب إدراكها واعتقادها.

الوقفة الثانية:

إنَّ الواجبات في الشريعة الإسلامية ليست على درجة واحدة، وليست قسمًا واحدًا، بل هي أنواع ودرجات، فمن المعلوم أن أركان الإسلام أعظم من غيرها من الواجبات، وأن منزلة الصلاة في الإسلام ليست كسائر الأركان، وهناك واجبات عينية تجب على الإنسان ذاته، وهناك واجبات على الأمة بأكملها وتسمى واجبات كفائية، إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وهناك واجبات تقع على قسم من الناس دون غيرهم؛ فواجب الحاكم غير واجب المحكوم، وواجب العالم يختلف عن غيره، وواجب من ولي مسؤولية تتعين عليه أكثر من غيره.

وهناك واجبات تختص بفئة دون أخرى؛ فواجب رب الأسرة في أسرته، والفرد في مجتمعه ووطنه، تتعين عليه ولا تنتقل إلى غيره إلَّا بضوابط شرعية، فمن المحكمات أنه لا يجوز لأحد أن يتعدى على أسرة غيره، ويتدخل في شؤونه بدون إذنه أو طلبه أو من باب النصيحة.

وقضية فلسطين ليست بدعًا جديدًا تخرج عن هذا الإطار، بل هي منه، فالواجب تجاهها واجب كفائي على الأمة بأكملها، وواجب عيني على أهلها وأكثر تعيينًا على العقلاء منهم وأهل العلم والرأي، وواجب أوَّليٌّ على القادة منهم ومن وثق بهم من أهلهم، وهذا لا يعفي غيرهم من التعاطف والتعاون والنصيحة والمشورة، كالفرح لفرحهم، والحزن لما يقع عليهم، ومدِّ يد العون كل بحسبه لهم، وعدم اليأس لما يقع بهم وفيهم من أحداث مؤلمة.

الوقفة الثالثة:

لا شكَّ أنَّ ما أصاب فلسطين هو نوع من الابتلاء، ليأتي بعده التمحيص والتدقيق، والمحاسبة والمراجعة، والتصويب والتصحيح، وهذه سُنة الله ﷻ في العباد والبلاد، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الٓمٓ ۞ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ۞ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1-3]، والأنبياء والمرسلون كلهم قد ابتُلوا ابتلاءات شديدة من نوح عَلَيْهِ السَّلَام إلى نبينا محمد ﷺ.

ولكن لنعلم أنَّ العاقبة للمؤمنين، والنتيجة لأولياء الله المتقين، والثمرة للصابرين، ولكن بشروط: الإيمان به، والتمسك بشرعة، والصبر على ما ابتلوا به، وعدم الخروج على حدوده، والإنصاف في التعامل مع سننه الكونية والشرعية، وقد أخبر الله تعالى بذلك يقينًا: ﴿إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7] ولا إخال أن إخواننا في فلسطين واعون كل الوعي بهذه السُّنة الربانية العظيمة؛ وبالذات قادتهم، والعلم بهذه السُّنة الإلهية يرزق النفس الطمأنينة والسكينة وقوة الفأل، والثقة بموعود الله تعالى ونصره.

الوقفة الرابعة:

إنَّ من أشدِّ المصائب والمحن ما يقع بين الأهل والأقارب من التناحر والتنازع، وبالذات إذا وقع تحريض بعضهم على بعض من أعدائهم، وهو ما يجعل السيئ من القول أو الفعل حسنًا، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8]، ولذا فمن أعظم الواجب العمل على قدر الاستطاعة على رد هذه الفجوات، وهذا التناحر، والبحث عن مسبباتها، وعلاجه بما يناسب؛ حتى لا تزيد تلك الهوة السحيقة، ومن ثم فالمنتصر مهزوم، والجميع خاسر وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

الوقفة الخامسة:

لا شكَّ أن الأسئلة تدور على لسان كل مسلم فيما يقع على أرض فلسطين من تسلط اليهود عليهم، أو من تناحر بعضهم مع بعض، ومن هنا يأتي تساؤل الفرد: وما الواجب عليَّ بصفتي فردًا مسلمًا في بلدي بعيدًا عن تلك الديار؟ ولعلي ألخص بعض الواجب في نقاط:

  1. الشعور بعظم ما تواجهه فلسطين من مصائب ومحن من أعدائهم ومَن ناصرهم، وكذا من المنافقين والمرجفين فيهم غير أن هذا الشعور ينبغي ألا يطغى على واجبات الفرد الأساسية فينساها فتختلط لديه المفاهيم والأوراق، ولعله يؤكد هنا ما قيل في الوقفة الثانية.
  2. الدعاء لهم بجمع الشمل، وتصحيح المسار، والتوفيق، والنصرة على الأعداء، وأن يريهم الله ﷻ الحق حقًّا ويرزقهم اتِّباعه، ويريهم الباطل باطلًا ويرزقهم اجتنابه، وأن يعيذهم من شر أنفسهم وشر أعدائهم وأن يرد كيد أعدائهم والمتربصين بهم الدوائر في نحورهم، وغير ذلك من الأدعية الصادقة.
  3. من يستطيع أن يقدم نصحًا أو توجيهًا أو رأيًا فليقدمه لهم بأي وسيلة من الوسائل الشرعية.
  4. تشجيع المناشط الخيرية والتربوية والتعليمية والإصلاحية في فلسطين بقنواتها الواضحة، كل بحسب مقامه واستطاعته.

الوقفة السادسة:

كان من سيرة النبي ﷺ في الأزمات والمحن التمتع بالهدوء، والتفاؤل، ولعلَّ قصة الهجرة أوضح مثال على ذلك.
وما وقع فيه شباب الأمة هنا وهناك من مشكلات وفتن لم يقع إلا والتفكير بنفس مشدودة، وضيق في تناول القضايا، ويأس من الواقع؛ كل ذلك كان من أهمِّ العوامل للانحراف غلوًّا أو تقصيرًا.
والتمعن في سير النبي ﷺ يضع لنا هذين المعلمين الأساسيين، ولعلَّنا نوصي بهما أنفسنا وإخواننا في فلسطين، فلا شكَّ أنَّ في طيات المحن منحًا، وما جاءت هذه المحن إلا لتقوية التثبيت، والتصفية، فقد ابتُلي رسول الله ﷺ بما هو أعظم ولكن العاقبة للمؤمنين. ومن هنا فتربية النفس على التفاؤل مطلب شرعي ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وكذا الهدوء والطمأنينة تجلِّي ما قد يقع على العين من غبش في الرؤية الحقَّة.

ولكن هذا التفاؤل لا ينبغي أن يكون مُقعِدًا عن العمل، واستسلامًا للواقع فيجب أن يصحبه العمل والجد فيه، وبذل الأسباب الممكنة، وعلى قدر الاستطاعة كما كان النبي ﷺ في جميع مواقفه.

الوقفة السابعة:

كل ما سبق من الكلام يزيد من تأكيد واجب الدول العربية والإسلامية ممثلة في مؤسساتها وحكوماتها، فتقوم بواجبها، ولعل مما أفرح المسلمين اتفاق مكة المكرمة الذي تعاهد فيه الفلسطينيون تحت جدار الكعبة الشريفة برعاية كريمة من بلاد الحرمين الشريفين –حرسها الله سبحانه وتعالى – ولا شك أن هذا عهد غليظ يتطلع المسلمون إلى أن يرجع الجميع إليه، وأن تقوم الدول المسلمة بعد أن باركته برعايته وينسخ ما جاء قبله أو بعده مما تدخلت فيه أطراف غير إسلامية لا تريد إلا زيادة في الفجوة والتناحر، ويؤخذ على أيدي الخارجين عليه.

إنَّ التذكير بهذا الاتفاق في اللقاءات على جميع المستويات يُوجد مرجعية وقَّع عليها الجميع، ويحاكم إليها الجميع، وسيكتب التاريخ –بعد أن تظهر الحقائق– من الذي يقفز على هذا الحبل أو يريد قطعه، ومن ثَمَّ يكون أول نادم، وبناء على ذلك فالتنازل عن الحقوق إلى حد وضع اليد في يد العدو ضد الأخ، واستنصاره عليه، يعد خيانة للأمة بأكملها وتأخرًا في حل القضية، وزيادة في الهوة والفجوة، والتناحر، وكل ذلك بلا شك لمصلحة العدو المشترك، فهل يعي هؤلاء وأولئك ما وقعوا فيه، وينتشلوا أنفسهم مما وقعوا فيه؟ نسأل الله تعالى ذلك.

الوقفة الأخيرة:

لعلي أختم هذه الوقفات بتذكير نفسي وكل مسلم -فضلًا على الإخوة في فلسطين- بضرورة المراجعة لعلاقة الإنسان مع ربه، وتمحيص تلك العلاقة، وتجديد العهد مع الله تعالى، وتصحيح النوايا والاعتقادات، وتصفيتها من شوائبها، ومراجعة السلوك والعمل، وإعادة الخطط وتقويمها، وعدم الانتصار للنفس، والإلحاح على الله تعالى بالدعاء للتصحيح والعمل بالحق، وعلى الأطراف التي وضعت أيديها في أيدي أعدائها على وجه الخصوص ضد شعوبهم وأمتهم أن يتوبوا ويرجعوا ويعيدوا حساباتهم، ويصححوا نظرتهم وينتشلوا أنفسهم مما وقعوا فيه من المأزق الخطير في هذه الظروف الخاصة الحرجة، سدد الله الخطى، وحقق الآمال، والله من وراء القصد.