home-icon
غزة: رؤية واقعية مستقبلية

يتحدث كثير من الناس على مختلف مستوياتهم العلمية، وتوجهاتهم الفكرية، ومناهجهم السلوكية، أو حتى آرائهم العقدية، ومذاهبهم، ومللهم عن غزة وأهلها، وما أصابهم من تسلط اليهود وأعوانهم: التسلط العسكري، وما أصابهم من الخذلان من بني جلدتهم، وكذا الحديث عن مقاومتهم، وصبرهم، وتحملهم، ومعاناتهم، ونكاياتهم باليهود، وتنشأ أسئلة كثيرة عن هذا الاعتداء الهمجي العشوائي، وكثير منها محيِّر لكثير من ذوي الألباب، وتزداد الحيرة عندما تأتي الأسئلة التي تمس الواقع العملي:

ما دوافع هذا الغزو؟ وما الذي يهدف إليه؟ وهل حقَّق شيئًا من أهدافه؟ وما أبعاده؟ وما الذي ينبني عليه بعده؟ وهل هو غزو ديني أو هو حرب على طائفة أو فرقة؟ ومن المنتصر وكلٌ يدعي النصر؟ وما موقفنا وقد وضعت الحرب أوزارها وبدأت المناورات الكلامية وإملاءات الشروط؟ وهل فعلًا يهود اليوم بفعلهم هذا هم يهود الأمس الذين قتلوا كثيرًا من الأنبياء؟ وحاولوا قتل نبي الله عيسى عَلَيْهِ السَّلَام فرفعه الله تعالى إليه وحاولوا مرارًا قتل نبينا محمد ﷺ بشكل مباشر وبشكل غير مباشر ونقضوا العهود معه مرارًا وتحالفوا مع المشركين وشجعوا المنافقين؟ وهل هم الذين خططوا لقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي اللَّهُ عَنْهُ وقتلوه بتدبيرهم وقتلوا الخليفة علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عَنْهُ بتدبيرهم كذلك؟ وهل هم الذين يعتقدون أنهم خيرة الشعوب، وأن غيرهم لا يجوز إلا أن يكون خدمًا لهم؟ وهل هم الذين تحالفوا مع بريطانيا وغيرها، حتى تمكنوا من سكنى فلسطين، واغتصبوا أرضها، وقتلوا كثيرًا من أهلها؟ ودمروا كثيرًا من مكتباتها؟ وهل هم بالتالي في حربهم هذه يحاربون حزبًا، أو طائفة، أو نوعية من الناس فدمروا مساجد، ومستشفيات، وجامعات، ومدارس، ومصادر للطاقة، وكثيرًا من الطرقات، والبيوت، ومنعوا الغذاء والدواء، وقتلوا الأطفال، والنساء، والشيوخ؟

وإن كانوا يهود الأمس فما بال أفراد من المسلمين يشجعونهم ضمنا، وذلك بالقدح والتثريب على إخوانهم المستضعفين في فلسطين؟ هل وصل بهم الحال إلى أنهم لا يفقهون حقيقة اليهود، وأنهم اليوم على غزة وغدًا بمكان آخر، فمخططاتهم المكشوفة لم تصل إلى هؤلاء؟ وهل لا يستحق الفلسطينيون عند هؤلاء شيئًا من التعاطف بما يسمى التعاطف الإنساني؟ ألا يظنون -وهم مسلمون بلا شك- أنَّ ديننا يعطف على الحيوان بل يدخل الله تعالى بسبب الإحسان إليه الجنة ويحرم من النار ويستحق صاحب الإيذاء النار كما في حديث المرأة التي سقت الكلب فدخلت الجنة وحديث المرأة التي حبست الهرة فدخلت النار؟ وهل يجهل هؤلاء هذه المعاني في ديننا العظيم؟ ومن آخر الأسئلة الآن: من المنتصر؟ وهل للنصر صورة واحدة، أم صور متعددة؟ وما العمل بعد هذه الحرب؟

هذه نماذج من الأسئلة، وغيرها كثير، أفرزها هذا العدوان الوحشي على غزة، ورآها العالم كله على الهواء مباشرة في ليله ونهاره، والأطفال قبل الكبار، والشعوب قبل الساسة، ولن يتوقف سيل الأسئلة، ولو بعد وقوف الحرب، فلها إفرازاتها، وتداعياتها التي لن تكون نهايتها وقف إطلاق النار، أعان الله أهل فلسطين خاصة، والمسلمين بعامة. إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها، تتطلب النظر والتأمل من عدة زوايا، من أهمها تحديد المنطلقات التي من خلالها تتم الإجابة، ومن أهمها:

المنطلق الشرعي:

هذا المنطلق الذي بيَّنه ربنا جل وعلا في كتابه الكريم، فليس النظر مبنيًّا على مجرد رأي فردي من زاوية ضيقة، أو مصلحية نفعية يعتقدها، وليس مبنيًّا كذلك على صوت قوي أثر في رؤيته وأحكامه. وعند التأمل في كتاب الله ﷻ، نجد قضايا مسلَّمة يقينية، من الخطأ الفادح إغفالها، أو تناسيها عند اتخاذ موقف، أو إجابة عن سؤال، وذلك مثل:

  1. تأصيل عداوة اليهود للمسلمين كما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله ﷺ.
  2. أنهم أشدُّ الناس عداوة للذين آمنوا.
  3. أنهم لا يعجبهم شيء إلا اتباعهم، وبقاء الآخرين تبعًا لهم.
  4. أنهم يتمنون أن يردوا الناس عمومًا عن دينهم.
  5. أنهم أهل مكر، وخداع، ولا أمان لهم.

وغير ذلك من المسلَّمات المذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217].

ومن المنطلقات الشرعية:

أن لله سبحانه وتعالى حكم في بقاء الصراع بين الحق والباطل؛ بمعنى أنه مهما حاول المسلمون استرضاء اليهود، فلن يبقى الأمر على هذه الحال، وتاريخ اليهود والعرب حافل بتصديق هذا المنطلق الكبير، نعم: لا يعني عدم المهادنة، أو المعاهدة على قضية بعينها، لكن هذه المعاهدات يجب ألا تُنسِيَ هذه السُّنة الربانية. وبمعنى آخر: يجب على أهل الحق أن يوقنوا بحقهم، ويعملوا لنصرته بجميع الوسائل الممكنة، بل وينشروا هذا الحق ويهدوه للبشرية جمعاء، والمتمثل في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

وهذا يوضح بجلاء عظم الخلط، وشدة المفارقة بين اعتقاد مسالمة اليهود، والغفلة عن العمل للحق.

إننا ملزمون بالعمل وفق كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله ﷺ، والتعمق في النظر في سيرته.

المنطلق التاريخي:

ابتداءً بتاريخ بني إسرائيل مع الأنبياء والمرسلين ومرورًا بموقفهم من نبينا محمد ﷺ إلى تاريخهم المعاصر، ومن المسلمات في ذلك:

  1. قتلهم عددًا من الأنبياء، قال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّنَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: 61].
  2. محاولة قتلهم لنبي الله عيسى عَلَيْهِ السَّلَام، قال ﷻ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157].
  3. محاولة قتلهم لنبينا وحبيبنا محمد ﷺ عدة محاولات، حتى مات ﷺ من أثر السم الذي وضعته له يهودية في طعامه.
  4. نقضهم للعهود مع النبي ﷺ مرارًا، وتحالفهم مع سائر الكفار، كما في الغزوة المشهودة غزوة الخندق.

هذه وأمثالها مما يعرفه المسلم الذي يتأمل القرآن الكريم، وشيئًا من سيرة النبي ﷺ مما لا مجال لتفصيله أكثر هنا.

المنطلق النفسي:

هذه لا تحتاج إلى بيان كثير، فمن المسلَّمات أن دراسة نفسية أي خصم تساعد في بيان كيفية التعامل معه.

والدراسات أكثر من أن تحصى في الإجماع على معرفة نفسية اليهود، مما بيَّنه الله تعالى في القرآن الكريم، ومن ذلكـ:

  1. اعتقادهم الأفضلية على العالم كله، إذ إنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فوصفوا أنفسهم بأنهم شعب الله المختار، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، ولكن الله تعالى رد عليهم: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ [المائدة: 18].
  2. أنهم أهل حيل، ومكر، وخداع، كما قص الله تعالى قصتهم في قضية تحايلهم على الصيد، قال عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ ۞ وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ۞ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ ۞ فَلَمَّا عَتَوۡاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ ﴾ [الأعراف: 163 – 166].
  3. أنهم يحبون إشاعة الفساد في الأرض، قال ﷻ: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: 64].
  4. أنهم أهل إثم وعدوان، وأكل للحرام، قال الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 62].
  5. أنهم أهل حروب واعتداء، قال الله ﷻ: ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [المائدة: 64].

وغيرها مما يتعلق بنفسية هؤلاء اليهود، والتي ينطلقون منها لتحقيق مآربهم وأهدافهم.

منطلق السنن الشرعية والسُّنن الكونية القدرية:

وهذه من أعظم المنطلقات التي تعين المسلمين جميعًا لتحديد مواقفهم من الأحداث، وصياغة المنهج الذي يتعاملون به في وقت الحدث، وبعده، بل وقبله، وأسرد نماذج لهذه السُّنن العظيمة:

  1. ما سبق في بيان سنة الصراع بيان الحق والباطل.
  2. سنة الابتلاء على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمعات والدول، وهذه سُنة كثر الحديث عنها هذه الأيام.
  3. سُنة التغيير نحو الأفضل أو الأسوأ، وأنها مصدر التغيير على أرض الواقع، ومن ذلك قول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
  4. ومن السنن أن بداية التغيير من الفرد نفسه، قال تعالى عن المسلمين في غزوة أحد لما تساءلوا عما حصل لهم: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165] وقال ﷻ: ﴿وَمَا أَصْبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 20] وهذه السُّنة تجعل المسلم في أي مكان من العالم يبدأ بتغيير نفسه؛ حتى ينتصر المسلمون على اليهود، وغير اليهود وحتى ترفع راية الإسلام في كل مكان.
  5. ومنها: أنَّ المعاصي هي سبب الابتلاءات، والعقوبات، والمحن، قص الله -سبحانه وتعالى- علينا قصص أقوام الأنبياء الذين عذبوا، فكان ذلك العذاب بسبب عصيانهم لله سبحانه وتعالى وعدم طاعتهم له ولرسله، فعذَّب قوم نوح بالغرق، وعذب عادًا بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بقلب الديار،، وغير ذلك، وقد ذكر النبي ﷺ في أحاديث أكثر من أن تحصى شيئًا عن عقوبات المعاصي الجماعية والفردية، إنَّ من المؤسف حقًّا التغافل عن هذه السُّنة العظيمة، التي يجب أن تشاع في أنحاء المعمورة كلها.
  6. ومنها أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للعن الأمم، وقد لعن الله تعالى اليهود بهذا السبب، قال سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بني إسراء يلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۞ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78 – 79].
  7. ومنها: أنَّ الله سبحانه وتعالى قيَّد نصره للمؤمنين بنصره ﷻ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7] ونصر الله تعالى يكون بالعمل بدينه، وبما جاء به رسوله الكريم ﷺ.
  8. ومنها: أنَّ الظلم عاقبته وخيمة، وهو ظلمات في الدنيا والآخرة، حتى ولو كان الظالم من المؤمنين الخلص، ولو كان المظلوم من الفساق والكفار، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]، وقال ﷺ: «اتقوا الظلم فإنَّ الظلم ظلمات»، وقال ﷺ لحبيبه معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عَنْهُ: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، وفي رواية حسَّنها الحافظ ابن حجر قال ﷺ: «واتق دعوة المظلوم ولو كان فاجرًا ففجوره على نفسه».
  9. ومنها أنَّ الناس ثلاثة أقسام: كفار، ومؤمنون، ومنافقون، وهذه الأقسام الثلاثة موجودة منذ أن بُعث النبي ﷺ إلى يوم القيامة، ولذلك قص الله تعالى أخبار هؤلاء، وهؤلاء، وأولئك، في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، بل في مطلع سورة البقرة، وإدراك هذا الأمر يتضمن تحذيرًا شديدًا للمؤمنين من المنافقين؛ لأنهم يظهرون ما لا يبطنون، ويدعون ما لا يعتقدون، فهم أشد خرابًا على المؤمنين من الكفار الظاهرين، لإجادتهم حسن الكلام، والقدرة على الكتابة والتلبيس والتدليس، ويظهرون بمظهر الإصلاح، قال تعالى: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۞ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11 – 12].
  10. ومنها الأمر بالتفاؤل، والنهي عن اليأس، مع اصطحاب العمل والاستمرار فيه. وهذه السُّنة العظيمة تجلت بوضوح في حياة النبي ﷺ كما في أول دعوته، وفي قصة الهجرة، وفي غزواته، وخاصة في غزوة الأحزاب، التي تشبهها أحداث غزة، فقد كان ﷺ يضرب الصخرة في الخندق، ويقول لأحد أصحابه: «أبشر فقد جاءكم النصر».
  11. ومنها أنَّ الله تعالى علمنا أنَّ النصر ليس له وجه واحد، منحصر في كثرة القتلى والجرحى، وإشاعة التدمير، وهدم الممتلكات، وإفساد المقدرات، من دور العلم، والصحة، والوقود، وغيرها، بل يأخذ أشكالًا، وأنماطًا متعددة، دلَّ على ذلك أن ما قصَّه الله ﷻ عن معركة أحد واعتبره نصرًا كبيرًا، مع أنَّ القتل في جيش النبي ﷺ كان أكثر، وجُرح فيها النبي ﷺ وكُسرت رباعيته، فلنقرأ ما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران، كما اعتبر النبي ﷺ ما جرى يوم الحديبية فتحًا ونصرًا، بل أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك، مع ما في بعض شروطه من إجحاف بالمسلمين في الظاهر، إن اعتقاد مثل هذا يبعث في النفوس الطمأنينة والثقة بموعود الله سبحانه وتعالى، والعمل المتواصل المستمر في مختلف المجالات، وعلى مختلف المستويات، وفي نواحي الحياة كلها.
  12. ومن أعظم السنن أن العواقب والنتائج حتمًا للمؤمنين، إذا حققوا التوكل على الله ﷻ، والاستعانة به، والثقة بنصره وموعوده، وفي الوقت نفسه إذا عملوا بالأسباب الشرعية، والمقدور عليها، كل بحسبه، دولًا، ومجتمعات، وأفرادًا.
  13. ومن السنن: سنة التدافع بين الناس، وهي سنة جارية في هذا الكون لتتم عمارته قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].

هذه جملة من السنن العظيمة التي يعين استصحابها حال الإجابة على الأسئلة؛ لكي تكون أجوبة مطمئنة مبرئة للذمة بعيدة عن الشطط وتحكم العواطف والانسياق وراء صوت قوي أو جلبة إعلامية أو رؤى نفعية.

منطلق جلب المصالح ودرء المفاسد:

من المعلوم أنَّ من مقاصد الشريعة جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، كما قرَّر ذلك أئمة الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما -رحم الله الجميع-، وكما هو مستند إلى أدلة من القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، ويندرج تحت هذه القاعدة قواعد فرعية أخرى، مثل: نفي الضرر، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ودفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما، وغير ذلك من القواعد المؤثرة في تنزيلها على الواقع.

والكلام في هذه القواعد يطول، لكن المقصود هنا: استصحاب هذه القواعد وأمثالها؛ لاتخاذ مواقف محددة في هذا الحدث وأمثاله، وأن الذي يستصحبها وينزلها على الواقع هم العارفون بها وبالواقع.

منطلق الحكم على الشيء فرع عن تصوره:

أظنُّ أنَّ هذا المنطلق لا يحتاج إلى تعليق، فيوجب على غير العارفين عدم إطلاق الأحكام، والتعليقات، وغيرها.

وأكتفي بذكر هذه المنطلقات التي تتأكد في حق من يتبنى موقفًا ليتعامل به، وبخاصة من يكون محلًّا للاتباع.

وبناءً على ما سبق في المنطلقات لاتخاذ موقف محدد، واستلهام الدروس المستقبلية، أذكر جملة من الأمور التي تجيب عن الأسئلة السابقة، لعلها تكون إضافة، مع سائر ما ذكره أهل العلم والرأي في مثل هذه الأحداث، تنير دربًا، وتحدد مسلكًا، وتجلب مصلحة، وتدرأ شرًّا.

إن ما حصل في غزة لا يشك مسلم أنه اعتداء عسكري على الإسلام والمسلمين من قِبَل اليهود، وإن لبس لبوسًا آخر.

فليست حربًا طائفية، أو على فرقة، أو على حزب، فكل الأحزاب والفرق الموجودة في غزة، وأشخاصها، لم يوجدوا إلا متأخرين، ومذابح اليهود في سلسلة متواصلة منذ وعد بلفور، مرورًا بعام 48 و67 و73 وغيرها، وهو ما أصبح ثقافة منشورة.

إنَّ حصر هذا الغزو ضد جهة معينة محاولة لإبعاد أفعالهم عن واقعها الحقيقي، أحسب أن هذه حقيقة، فمن غير الحصافة إغفالها لمن يعرف حقيقة اليهود، وتاريخهم الأسود.

إنَّ عداوة اليهود مستمرة، وفي هذه البقعة بالذات «فلسطين»، كذا أخبرنا النبي ﷺ، بل أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، كما أخبرنا الله جل وعلا في القرآن الكريم.

وبناءً على ذلك: من المهم أن نعي هذه الحقيقة، ونجدد وعيها للأجيال، ومقتضى هذا الوعي أن يُبنى التعامل معهم وفق المستلهم من القرآن الكريم الذي قرر هذه العداوة، ووفق تعامل النبي ﷺ، وعليه: فتقديم التنازلات غير المحدودة مع اليهود على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات، والدول المسلمة، محل نظر، يحسن التأمل فيه والمراجعة.

ومما يبنى على ما ذكر: ضرورة الوعي بسمات اليهود، وصفاتهم، وتعاملهم، من خلال النصوص القرآنية والنبوية، ومن خلال تاريخهم قبل نبوة محمد ﷺ، وفيما بعد بعثته ﷺ، وفي تاريخهم المعاصر.

إنَّ الوعي بهذه السمات وتأملها يبعد الغبش الحاصل عند كثير من الذين ينظرون من خلال مصلحة ضيقة، أو حالة خاصة، أو عاطفة جياشة، تلغي المصالح والمفاسد.

وعليه يجب على أهل العلم والرأي والفكر والتربية توضيح هذه المفاهيم الكبرى.

وهذا لا يعني إلغاء التعامل معهم، والمعاهدات، والمناورات، بل يضفي شيئًا من إنارة الدرب، والذي يقدر هذه الأمور هم أهل الرأي، والحل، والعقد، ويخضع للنظرات العليا في المصالح الكلية، والجزئية، والمفاسد العامة، والخاصة. ويستلهم ذلك من أحوال النبي ﷺ في تعامله معهم، فعقد العقود، وأخذ العهود في بعض الأحوال، وتعامل بالقوة في بعض الأحوال.

ويبقى الأمر المهم في هذه المسألة: من الذي يقدر النظر في هذه القضية الحساسة المفصلية؟

سؤال في غاية الأهمية والجواب الإجمالي أن نقول كالعادة: أهل العلم والولاية، كلٌّ فيما يخصه، ولكن نقول بشيء من التفصيل: إنَّ أهل الشأن في فلسطين من ولاة، وعلماء، وأهل فكر، ورأي، هم في المقدمة، فهم أهل الميدان، والأعلم بحال القوم.

ومن هنا ندعوهم لأن يتحدوا، ويجمعوا كلمتهم، ويوحدوا صفهم، ويتركوا التشنج والخلاف القومي، ويراعوا المصالح الكبرى، وإن كانت على حساب مصالح جزئية أخرى فالعدو لا يفرق.

ولعلَّنا هنا نشيد بمواقف جميع الفصائل، باتخاذ الموقف عندما حدث هذا الاعتداء.

ومما ينبغي أن يُعلم أن هناك دولًا وشعوبًا مجاورة، لها حق في القضية، فأهل العلم، والرأي، والولاية، هم من يحددون المواقف، من خلال ما سبق في القضايا الشرعية، والمصلحية الكبرى.

ولذا ندعو هؤلاء أيضًا إلى ضرورة الاهتمام بالقضية، والتنسيق الفعلي مع جميع الأطراف من أهل فلسطين، وليس لطرف دون آخر.

أدرك تمامًا عِظَم القضية، ودقتها، وتعقيدها، ولذا أقول هنا:

  1. إنَّ المسؤولية على أهل العلم والسياسة مسؤولية عظيمة، تتطلب الحكمة، والعلم، والتعاون، والتشاور، وإبعاد الحنق، والضيق، وتحكم المصالح الذاتية، أو العواطف الجياشة.
  2. على عامة المسلمين أيًّا كانوا، وبخاصة فئة الشباب والشابات، أن يعوا خطورة الموقف، ويرتقوا بمستوى الوعي؛ لتكون مواقفهم مبنية على علم ودراية، وعليه لا نستغرب وجود معاهدات، أو تعامل قد لا يرضي متحمسًا، ولا طموحًا، ولا مستعجلًا.
  3. وعلى أهل العلم أن يكونوا واضحين في مواقفهم، وأن تكون هذه المواقف مبررة شرعًا، وبخاصة الخطوات العملية.
  4. والحذر من اتخاذ مواقف فردية من طلبة العلم، قد تضر فئات من الناس، أو تضر القضية بكاملها، أو تتسبب بأضرار مع الآخرين، دون حسبان للنتائج والعواقب.

إنَّ التأمل في بعض ما جرى في الحدث نفسه، سواء من أهل فلسطين في قلب الحدث، أو من سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، تجلَّى فيه معانٍ عقدية غاية في الأهمية، من الضروري استمرارها، وإحياؤها في النفوس، وتجديدها على أرض الواقع، ومنها:

الحدث كله قضاء وقدر من الله تعالى، ابتلى به مباشرة أهل غزة، وابتلى به غيرهم بشكل غير مباشر.

و«القضاء والقدر» ركن من أركان الإيمان، لا يتم إيمان العبد إلا به، كما في حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلَام عندما سأل النبي ﷺ عن الإيمان، فأجابه بأركان الإيمان، ومنها: «أن تؤمن بالقضاء والقدر».

إنَّ استشعار هذا الركن وإحياءه في النفوس يورث قوة الثقة بالله تعالى، وعمق الطمأنينة، والدافع المعنوي، بأن ما حصل لحكمة يريدها الله تعالى، فيعلي به أقوامًا، ويذل به آخرين.

كما أنَّ استشعار هذا الركن العظيم يورث قيمة من أعظم القيم، وهي قوة الصبر والتحمل، الذي هو من أقوى عوامل الفوز والنجاح. ومن هنا: يؤكد على إحياء هذا الركن العظيم في النفوس، وبثه بين الناس.

في الحدث تجلَّى معنًى عقدي عظيم، وهو اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، فتخاذل الدول الكبرى، والتباطؤ المشين منهم، والحيرة في البداية لدى كثير من الدول العربية والإسلامية، والعدو يضرب الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة، ويدمر البيوت والمستشفيات، ودور التعليم، وغير ذلك، كل هذا جعل أولئك الذين تحت القصف والدمار، والآخرين الذين لا حول لهم ولا قوة، يدركون تمامًا أنه لا نافع إلا الله تعالى، ولا مدبر إلا هو، فيقوى عندهم هذا التوكل العظيم.

وعليه فمن الخير العظيم أن نحيي هذا المعنى في جميع شؤون حياتنا، وفي المدلهمات بخاصة.

ومن المعاني العقدية التي ظهرت بوضوح معرفة كثيرين أهمية دعاء الله تعالى ومسألته، فهو السلاح الأكبر، والنافذ بقوة، والله ﷻ قد تكفل بإجابة الدعاء، ويحب ﷻ إلحاح الملحين، وكم يؤسف العاقل أن يسمع كلمات من هنا وهناك، تهمش شأن الدعاء، وهذا أمر عجب، ألا يعلم هؤلاء أن النبي ﷺ أمضى ليلة بدر كلها بالدعاء حتى سقط رداؤه ﷺ وأشفق عليه صاحبه أبو بكر الصديق رضي اللَّهُ عَنْهُ.

كم نحن بحاجة إلى إحياء هذا المعنى، وبخاصة التذكير بما يتعلق بأهمية الدعاء وشروط الإجابة، وموانعها!

إنَّ الناظر في مجتمعات المسلمين يعصره الأسى وهو يرى موانع الإجابة، وبخاصة المعاصي، ومن أشدها: التعامل بالمحرمات، كالتعامل بالربا، فالله عَزَّ وَجَلَّ طيب لا يقبل إلا طيبا، كما أخبر النبي ﷺ .

وكم يسعد المرء في هذه القضية وهو يرى الأطفال قبل الكبار يرفعون أيديهم للدعاء على اليهود؟! لا شكَّ أنَّ ذلك علامة توفيق، نأمل أن يُعلى قدرها، ويواصل في الاستمرار فيها.

ومن المعاني العقدية التي أظهرها هذا الاعتداء الوحشي التفاؤل، وحسن الظن بالله تعالى، وكما قيل في المعنى السابق يقال هنا، فمع شدة القصف، وتعطل جميع المقدرات، يبرز هذا المعنى الدقيق، وهو الاستبشار بما وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنصر، بمفهومه الشامل، الذي يجب أن يتعلمه المسلم كما سبق في المنطلقات.

وهذا يتم من خلال النظر في المكتسبات، والخسائر من الأطراف المعنية، ومن خلال النظر في المستقبل في ضوء المعطيات العامة.

إنَّ إحياء التفاؤل، وحسن الظن بالله تعالى، يبعث في النفس الطمأنينة، والسكينة، والقوة المعنوية للاستمرار نحو العلو في جميع الأمور، وبالاستمرار في المقاومة الحقة في هذه القضية المصيرية.

يبقى أن يُؤكد على معنًى دقيق في أثناء الكلام عن التفاؤل، والاستبشار، وهو أن هذا التفاؤل ينبغي أن يكون مبنيًّا على معطيات واضحة نظرية وتطبيقية، وليس مبنيًّا على مجرد استبشار، وذلك بناء على منطلق العمل بالأسباب، وألا يؤدي هذا التفاؤل إلى التحليق في أفق الخيال، فيعيش الناس في خيال مستمر، علينا تفعيل التوازن البعيد عن اليأس والقنوط، وعدم العيش في خيال مُقعِد عن العمل.

ومن المعاني العقدية أيضا تجلَّي مفهوم الولاء لله سبحانه وتعالى ولدينه ولعباده المؤمنين، والبراء من الكفر وأهله، ولا شكَّ أن مما يتعيَّن على أهل العلم بيان التفصيل في هذا المعنى الكبير بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ حتى لا تزل به الأفهام.

ومما أكده هذا الحدث الضخم إبراز صورة الصراع بين الحق والباطل، إبرازا يبعد الشك في أي من مقرراته، أو تلبيسه بأي لبوس يبعد جوهره، إنَّ إبراز هذه الحقيقة يجعل أهل الحق، وأهل الرشد والرأي بخاصة يكرسون العمل الجاد بالعمل بالحق، ونشره، والسعي للتمسك به، والدفاع عنه، وعمل البرامج العلمية لترسيخه، وتجذيره، وأخص هنا البرامج التربوية العلمية، ومنها:

  • نشر العلم الشرعي المبني على القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، والسيرة الزكية العطرة، حفظًا، وتعليمًا، وعملًا، بكل وسائل النشر، وتربية الأجيال على ذلك.
  • بالعلم الشرعي نحافظ على أصولنا.
  • وبالعلم الشرعي تتحد رؤيتنا.
  • وبالعلم الشرعي تتضح منطلقاتنا.
  • وبالعلم الشرعي نسدد أحكامنا.
  • وبالعلم الشرعي يَسلَم مسارنا.
  • وبالعلم الشرعي نصل إلى غاياتنا.
  • لست بحاجة إلى حشد الأدلة لبيان أهمية هذا المعنى لوضوحه وجلائه.

وبناءً على هذا المعلم الكبير نؤسس برامج:

  • لتحفيظ القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه.
  • لإقامة الدروس؛ لتفسير القرآن الكريم.
  • لحفظ السُّنة النبوية، ونشرها، والدفاع عنه.
  • لإقامة محاضرات، ودروس في السيرة النبوية العطرة.

هكذا نوحد مسارنا المبني على أصول ومنطلقات ثابتة، وتسد كثيرًا من الفجوات التي ظهرت بين أبناء ملتنا في هذه الحرب.

من المؤمل جدًّا ألا نطفئ جذوة انفعالاتنا تجاه هذه الحرب العاتية، بتبجيل ذواتنا بالنصر، دون أن يصحب ذلك برامج عملية مستقبلية، مبنية على العلم الحق من مصادره الحقة.

إن إدراك سنة الصراع: يضفي على المؤمن العاقل بحق قدرًا كبيرًا من الطمأنينة والرضا، وفي الوقت نفسه يعطى دافعًا قويًّا للاستمرار في الأعمال العلمية، والتربوية، والدعوية، المتضمنة لنشر الخير، ونفع البلاد والعباد، وهكذا كانت سيرة النبي ﷺ ، فقد كان على هذا العهد ﷺ، رغم شدة المواقف في حياته كلها، ابتداء من ولادته يتيمًا، مرورًا بشظف العيش، وببعثته ﷺ وتحدي قومه له، وعمل المعوقات ضده، إلى غير ذلك مما واجهه ﷺ، ومع هذا كله كان يتمتع ﷺ بقدر كبير جدًّا من الرضا الباعث على العمل، ولم يقعد عن العمل لحظة من اللحظات، حتى في عام الحزن، وفي أحلك الظروف في مثل غزوة الأحزاب.

إنَّ مجرد الاستمرار في الأعمال هو ثمرة من أهم الثمرات التي تخلفها مثل هذه الأحداث الكبار، كما أنَّ إدراك سنة الصراع الدائمة يؤكد على أمر في غاية الأهمية، وهو ضرورة التثبت، وعدم الاستعجال، في الآراء، والتحليلات، ونقل الأخبار، والنصوص، والفتاوى الفردية، والانفعال تجاه موقف.

آمل أن لا يقول قائل: إنَّ إشاعة هذا المبدأ -التثبت- شعار يبعثه القاعدون المتكاسلون، فهذا القول وأمثاله مما أظنه من تلبيس الشيطان؛ لأنه هكذا يلغى من نفوس أهل الطاعة المعاني العظيمة، التي نحن بحاجة إلى أن نجعلها عناصر مهمة في تعاملنا مع برامجنا المستقبلية، وكما نقول عن ضرورة الاستمرار في الأعمال المبنية على العلم، فنقول أيضًا أن يبنى هذا الاستمرار على قدر كبير من الرؤية وعدم الاستعجال.

وإدراك هذه السُّنة من سُنن الله تعالى، يبعث في النفس عدم الضيق والحنق من وجود الباطل، فليعلم أنه موجود منذ أن عاند إبليس بعدم الاستجابة لأمر الله تعالى في السجود لآدم إلى يوم القيامة، ويدرك المؤمن أنه مع عدم الضيق يجب أن يعلم أن مهمته العمل للحق، وليس مجرد القضاء على الباطل، وإنما إبلاغ الحق للناس، قال سبحانه وتعالى: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2] وقال عَزَّ وَجَلَّ : ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48].

ومن مقررات هذا التصور الدقيق أن يسرى هذا على جميع برامج مغالبة الحق للباطل.

إنَّ المؤمن الحصيف عليه أن يستشعر كل هذه المقررات؛ ليتخذ منهجه الخاص، وبرامجه الخاصة والعامة في ذلك.

ومن أهمِّ معالم هذا المنهج البعد عن التضييق على النفس، أو على المجتمع حال تصوره غلبة الباطل، وإنما النظر بعين البصيرة لمنهاجه الحق، ومما يبرز –على مدار التاريخ– في الأحداث العظام انشطار الناس إلى أقسام متفرقة، وعلى رأس هذه الأقسام قسم يتربص بالناس الدوائر، فقد برزوا في عهد النبي ﷺ في أحلك الظروف، وبخاصة في الغزوات، كما في غزوة أحد، كما قص الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك علينا في القرآن الكريم، فبسبب هؤلاء المنافقين رجع ثلث الجيش للشُّبَه التي ذكروها، بأنَّ المدينة خلت من الرجال، ونخشى على البيوت والنساء، وإن يعجب الناس من مقالة هؤلاء في هذه الأحداث، فالعجب يشتد مع من كان مع رسول الله ﷺ، ويعلم أن الله تعالى سيفضحهم، لكنها حكمة الله سبحانه وتعالى، فهل نعجب بعد ذلك بمن يضع اللائمة على الفلسطينيين أو سكان غزة أو حزب معين؟ وكأن اليهود حمل وديع، مسالم، حبيب إلى النفوس، لا يعادون أحدًا، ولا يظلمون، ولا يقتلون ولا ينقضون عهدًا ولا ميثاقًا، وأنهم أصحاب صدق وتعامل حسن!! ويصب جام غضبه ومداد قلمه على أبناء ملته؛ لأنهم ارتكبوا فيما يظنه خطأ.

لكن يبقى النظر في الموقف من حال هؤلاء المرجفين، ويمكن هنا تلخيص بعض النقاط بشكل موجز:

  1. إدراك وجود المنافقين في كل زمان ومكان.
  2. ضرورة الاطلاع على ما ذكره الله سبحانه وتعالى من صفاتهم في القرآن الكريم، وبالذات في مطلع سورة البقرة، وفي سورة “المنافقون”، ومن ذلكـ:
    –  ادعاؤهم الإصلاح وهم مفسدون، قال ﷻ : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۞ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴾[البقرة: 11 – 12].
    –  بلاغتهم في كلامهم وتنميقه وتزيينه: ﴿ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ [المنافقون: 4].
    –  إظهار ما لا يبطنون، فتأتي الأحداث لتبين ذلك، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14].
    –  همهم السخرية من الدين وأهل العلم والحق، كما في الآية السابقة، وغيرها مما يطول ذكره.
  3. ضرورة الاطلاع على منهج النبي ﷺ في تعامله معهم، ومن معالم هذا المنهج:
    – معاملة الناس بحسب ما يظهرون، وعدم البحث في النوايا كما جرى مع المعتذرين من عدم حضور غزوة تبوك.
    –  عدم إصدار الأحكام على معينين، فهذا من الخطورة بمكان، فالنبي ﷺ لم يصدر حكمًا على معين ممن أظهر الإسلام، وأبطن الكفر، والمسألة فيها تفصيلات لأهل العلم.
    –  بيان صفات المنافقين كما جاءت في القرآن والسُّنة.
    –  بيان المقولات والآراء الخطأ من خلال الشرع.
    –  ألا يشتغل صغار طلبة العلم بأحوال المنافقين، فهذا من شأنه أن يشغلهم عما هو أهم، بل يجب أن يشتغلوا ببناء أنفسهم والاهتمام بها.
    – التحذير من النفاق بعامة، بحسب ما جاء في القرآن والسُّنة النبوية.
    – عدم الانجراف وراء الشيطان لتزكية النفس، من خلال التعريض بفلان أو علان.

ومما ظهر في الآونة الأخيرة جليًّا أكثر من غيره في الأحداث المعاصرة، التعاطف الشعبي الكبير في أرجاء المعمورة لما شاهدوه من الاعتداءات الظالمة، والقتل والتدمير، حتى من بعض الشعوب غير المسلمة. وهذا يدل على ما يلي:

  1. أنَّ الفطرة الإنسانية مغروس فيها كره الظلم واستنكاره.
  2. أنَّ جذوة الإيمان ما زالت متوقدة في الشعوب المسلمة على اختلاف مذاهبهم، ومستوياتهم، وأحوال المعيشة، وغيرها.
  3. بُغض اليهود وأفعالهم.
  4. أثر هذه العواطف في واقع الناس عمومًا.

وهذا يتطلب من أهل الولاية والعلم والفكر استثمار هذه العواطف الجياشة، ووضعها في مسارها الصحيح، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، ويستغل ذلك من لا يحسن، أو حتى مغرض أو صاحب هوًى، أو مصلحة، فيوقع الناس في مسارات غير سليمة.

من الاستثمار الإيجابي المبادرات التوجيهية السليمة، وربط المواقف بالأدلة الشرعية، وإحياء المرجعية العلمية، والصدور عنها، وعدم التعصب لرأي دون آخر، وينبني على ذلك أن تجتهد المؤسسات العلمية بمختلف تخصصاتها بوضع البرامج المناسبة لذلك.

ومن الوقفات التي تسترعي الانتباه إحياء المسؤولية الإعلامية بمختلف وسائل الإعلام، والتي قد انشطرت في هذا الحدث إلى شطرين، شطر وعى مسؤوليته فأبدى جهده لتصوير الحدث، ونقله للعالم، والتعليق عليه، وشطر نظر إليه من منظار آخر يحز في النفس، كأنه لا يعنيه، بل استمر في برامجه التي لا تتفق مع الدين، ولا حتى مع مشاعر هذه الأمة التي آلمها الحدث، فانكشف في ذلك غطاءات، وتبين ما تبين مما كان مغبشًا على كثيرين.

وهذا يتطلب ما يلي:

  1. الاهتمام من أهل العلم والعقل بوسائل الإعلام المختلفة، مهما كان أثرها في ظن الظان أنها يسيرة.
  2. على المختصين في الإعلام الاجتهاد فيما يسوغ لهم الاجتهاد فيه من الإبداع في عمل البرامج النافعة للدور والأوطان.
  3. مناصحة القائمين على مختلف وسائل الإعلام ليقوموا بما حمَّلهم الله تعالى من أمانة هي من أعظم الأمانات.
  4. تحذير وسائل الإعلام من تكريس جهدها فيما يتناقض مع الشرع، والقيم والأخلاق، وما تبثه من برامج مضعفة للأمة.

ومما يلفت النظر في الأحداث تلك الإبداعات المتفرقة من هنا وهناك: برامج طلابية، ومناشط إنترنت، وغيرها مما يثلج الصدر، ويبهج الخاطر، وهذا من شأنه أن يدفع أصحاب المواهب، والقدرات، والتميز، والإبداعات، إلى أن يسهموا في كل ما من شأنه نفعهم، ونفع أسرهم، ومجتمعاتهم، وأوطانهم، وأمتهم، بمختلف الوسائل السلمية الممكنة، ولو كانت قليلة، فأثرها عند الله تعالى عظيم، ولا تقتصر تلك الإبداعات على هذا الحدث، بل الاستمرار، فالكون كله مبني على الحركة الدؤوبة، التي لا تنقطع، فلا تنقطع تلك الإبداعات، والمصدر الشرعي لذلك قول النبي ﷺ لحسان بن ثابت رضي اللَّهُ عَنْهُ: «اهجهم وروح القدس معك»، وهو ما يدل على ضرورة المشاركة نحو البناء بأي جهد ممكن سليم.

وغني عن القول هنا: أن هناك فئتين حمَّلهما الله تعالى المسؤولية العظيمة: الحكام، وأصحاب النفوذ والقرار، وهؤلاء تتجلى مسؤوليتهم في المنظور السياسي، والعلماء، وأهل الفكر، وهؤلاء تتجلى مسؤوليتهم في البيان، والتوجيه، والتصحيح، وضبط المسار العام، والنصح.

ولا شكَّ أن جهودًا مباركة قامت من تلك الفئتين، كانت جهودًا متنوعة إغاثية وإرشادية ودبلوماسية وغيرها، حقها أن تُشكر، ويُدعى لأصحابها، وألا تغمط وتهمش، ولو كانت لم تصل عند بعضهم للطموح المنشود، ولكنها خطوات إيجابية، نأمل مزيدًا منها للقيام بالواجب، ومما يشار إليه هنا:

  1. ضرورة المناصحة بالتي هي أحسن، والاستمرار في ذلك، فهذا من مقتضيات النصح لله سبحانه وتعالى ولرسوله ﷺ، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
  2. الكف عن التلاوم، الذي لا ينتج إلا سلبيات تتراكم، وهذا لا يعني: عدم النقد الهادف.
  3. تشجيع الخطوات الإيجابية، وطلب مزيد منها.
  4. تقديم الدراسات النافعة لأصحاب القرار أيًّا كانت مواقعهم.

ومن نافلة القول: أنَّ جهودًا ظاهرة وخفية برزت في هذا الحدث: أدعية ربانية في القنوت بخشوع ظاهر، وأدعية الصلوات والخلوات، وكذا تبرعات سخية على مستوى الدول والشعوب، وإغاثات طبية، وإسهامات أطباء، وتفاعل جمهوري، وغضب عالمي، وجهود إعلامية لم تكن مسبوقة، ونصائح من هنا وهناك، وغيرها مما يصعب حصره، ويُشار إلى ما يلي:

  1. الدعاء الأوفى من الجميع للجميع، على ما قاموا به من جهود، وبخاصة في ظهر الغيب.
  2. شكر هذه الجهود وتثمينها، وعدم الإقلال من شأنها، كما هو حاصل على ألسِنة بعضهم: «ماذا عملنا؟ ماذا قدمنا؟». بل أقول قُدَّم –ولله الحمد- كثير، فلا يكون الهم التلاوم والتثبيط.
  3. التناصح فيما يقع ووقع من الأخطاء.
  4. الحث على استمرار الجهود لما فيه صلاح الجميع.
  5. احتساب الأجر عند الله عَزَّ وَجَلَّ في هذه الجهود.

وإن كان من الواجب تثمين تلك الجهود العظيمة، فمن الواجب استشعار حالة المرابطين هناك من جميع الفئات، دون حصر القضية في فئة واحدة، فهم الذين في الواجهة، فيتوجب لهم الدعاء، والدعم بكل أنواعه ووسائله، والنصح، كل بحسبه، كان الله سبحانه وتعالى في عونهم، وسددهم ونصرهم وأيدهم.

وقد وضعت الحرب أوزارها، وتوقفت مع شيء من الحذر يَرِدُ السؤال: مَن المنتصر؟ ومن المهزوم؟ ومن الكاسب؟ ومن الخاسر؟

إنَّ من الاستعجال الإجابة المطلقة بانتصار أو هزيمة، وإن كانت الآمال قد تتغلب على الآلام، ولكن من الخير والحكمة أن نقف مع عدة نقاط تعين على التبصر في تحسب العواقب، ومنها:

  1. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون دحر اليهود، وجعل جولتهم خاسرة، وارتدوا على أعقابهم خاسرين، من غير أن يحققوا جميع أهدافهم.
  2. للنصر مفاهيم متعددة، أو قُل: صور متنوعة، وليست صورة واحدة، ورأس التقسيم أنَّ النصر لما يُراد له في الآخرة، وهذا نحتسب على الله تعالى أن يكون حصل لإخواننا شهداء وأحياء، وهناك نصر آخر لما يراد في الدنيا، وهذا هو محل التفصيل.
  3. من الموازنات الجيدة حصر المكاسب بالتفصيل، والخسائر المادية، والمعنوية، وإظهار ذلك ليعين على تبصر الرؤى المستقبلية من أصحاب الشأن.
  4. وفي الموازنات أيضا: إبراز تكافؤ الطرفين.
    وللنظر في هذين الأمرين يدرك المتأمل أنَّ سفينة النصر الكلية حصلت لعباده المرابطين من عدة أمور:
  • قوة معنويات هؤلاء رغم عمق الجراح.
  • أنهم مظلمون، والمظلوم منتصر.
  • أنهم -ونحسبهم كذلك- من أهل الركوع والسجود، والله عَزَّ وَجَلَّ لا يخيب رجاء الراجين.
  • أنهم صامدون رغم هول ما أتاهم من الجو، والبحر، والبر، مما لا يستطيع المشاهد أن يشاهده، وغيرها.

ومن الموازنات: إدراك حالة اليهود، فلا شكَّ أنهم حقَّقوا شيئًا من أهدافهم، ومنها: القتل لجميع الفئات، والتدمير للممتلكات، وتخريب الديار، والقضاء على كثير من المزارع، والمنشآت، ودور العلم، والعبادة.

هذا جزء من أهدافهم: تحقق شيء منه.
وهذا ما ذكره الله -جل وعلا- في كتابه، بل فعلوه مع أنفسهم لما أخرجهم النبي ﷺ من المدينة: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَتَأْوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾ لكن المطلوب: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [الحشر: 2].

أما أهدافهم: في القضاء على فلسطين، أو أهلها، أو على حزب معين، أو جث جذور المقاومة، فأنَّى لهم؟ لأن حكمة الله تعالى وسنته جارية في استمرار الصراع.

ليس المهم –مع أهميته– إظهار علامات النصر، بقدر أهمية منهج التعامل في المستقبل الذي يتطلب برنامجًا دقيقًا لإخواننا هناك، وهذا يجعلنا نقول نقاطًا سريعة:

  • حمد الله وشكره على ما حصل.
  • الترحم على الموتى، وسؤال الله احتسابهم شهداء.
  • العمل الجاد على رأب الصدع الذي حدث في البنية التحتية.
  • اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وسؤاله بيان الحق، والعمل به.
  • العمل الجاد على مواساة الأرامل واليتامى، وعامة المصابين.
  • ترتيب الأولويات.
  • تغليب المصالح العامة على مصلحة حزب أو فرقة.
  • تقدير الإيجابيات لما حصل والسلبيات.
  • المصارحة للذات والمكاشفة الهادئة لمعالجة الأخطاء، فالله سبحانه بيَّن بعض أخطاء الصحابة في غزوة أحد، مع أنه سبحانه وتعالى نصرهم في النهاية، واعتُبرت الغزوة انتصارًا عظيمًا.
  • التوبة إلى الله تعالى مما وقع مما هو عمد أو خطأ.
  • التنازل لأجل الاجتماع، وجمع الصف، وتوحيد الكلمة، خير من الإصرار على الرأي.

وبعد، فالسفينة كلها حققت انتصارًا عامًا في هذه الجولة، لكن هذه الجولة حلقة في سلسلة صراع مع اليهود الذي لا ينتهي إلا بعد أن ينطق الحجر والشجر: «يا مسلم، ورائي يهودي، تعالَ فاقتله، إلا شجر الغرقد».

وهذا لا يعني أن يكون هناك جولات بعيدة الأمد تحمل هدوءًا وهدنة، وغير ذلك.

وأخيرًا وليس آخرًا: إن من الخير بيان محاذير وقع بعض منها:

  1. الفتاوى الفردية غير المدعمة بالدليل الشرعي، والتي من شأنها أن تربك الصف وتقسم الناس وتزرع الفرقة وتضر بآخرين.
  2. الاستعجال، سواء كان في الأعمال أو في طلب النتائج، أو في الحكم على الأشياء، وهو بهذا يعد آفة من الآفات التي تقضي على الوصول إلى الأهداف المنشودة.
  3. الأحكام المطلقة العامة، مثل: «أين العلماء؟ لم يعملوا شيئًا»، «ما دورنا؟ أنقف عند الدعاء فحسب؟»، ونحوها، وهذه الأحكام من شأنها التحطيم، وإلغاء الأولوية الإيجابية، وعدم تصحيح الأخطاء الحقيقية، بالإضافة إلى ما فيها من الظلم والتعدي، واحتقار جهود تحتسب عند الله أنها عظيمة.
  4. التلاوم، ووضع اللوم على أشخاص، أو جهة ونحو ذلك وتحميله أوزار هذا الغزو، دون استصحاب كلمة حق في اليهود، وهذا من شأنه: تزكية اليهود، وهذا خطير جدًّا على معتقد الإنسان، كما أن من شأنه: إبعاد القضية عن واقعها الحقيقي، وتلبيس الحقائق، والدخول في دوائر لا تنتهي.
  5. التهوين من شأن الجهود المبذولة أيًّا كان نوعها، ومثل من يرى هذا التهوين يبقى محلقًا في مثالية لا يصل إليها ولو بخياله، وهذا خطير أيضًا لوقوعه في جهل واضح في سيرة النبي ﷺ الذي كان كثير من صحابته -رضوان الله عليهم- يُسهمون بالـمُدِّ والصاع وغيره، ويبارك ذلك ﷺ.
  6. رفع شأن مقالات المرجفين، أو التأثر بها وترديدها، وهذا فيه إشاعة للمنكر، وإخبات للحق، ومع أنَّ هؤلاء المرجفين وجدوا في عصر النبي ﷺ كما سبق، فلا يستغرب وجودهم في مثل هذه الأحوال.
  7. المطالبات لما يُعلم أنه غير ممكن، والتحسر على عدم الاستجابة، وهذا من شأنه أن يحبط الأعمال الممكنة الكثيرة، فعلى الفرد والمؤسسة والجمعيات والمجتمع أن يعملوا بالممكن والمستطاع، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
  8. التوتر، والحنق، والضيق، وعدم الهدوء في النظر للأشياء، ولهذه القضية بالذات، والتحسر المقعد عن العمل، ولا يعني هذا عدم الحزن على ما حصل من كثرة الوفيات، والجرحى، وإهلاك الموارد والمقدرات، بل الحزن فطرة فطر الله سبحانه وتعالى الخلق عليها عند فقد محبوب، أو حصول مكروه، لكن أن يصل إلى اتخاذ مواقف مبنية على هذا التوتر فهذا بعيد عن سُنة النبي ﷺ الذي كان يتمتع بالهدوء والتفاؤل في أحلك الظروف.
  9. المبالغة في تكبير بعض المكتسبات دون وضعها في الميزان الحقيقي، أو الضد أيضًا وهو التهوين في تصغير بعض الخسائر كالذي يهون من شأن الموتى أو الجرحى ونحو ذلك، ومن الخير وضع الأشياء في موضعها؛ لأن هذا الذي يعطي السلامة للرؤية المستقبلية.
  10. حصر نصرة القضية في أمر واحد، كمن يقول: «إذا لم يفتح المجال للجهاد فلا فائدة من ذلك»، ويلغي شأن الدعاء والجهود الإغاثية والطبية والإعلامية، والنصح، وغير ذلك، فهذا من شأنه التضييق في الأحكام والمجالات، وهو منهي عنه.
  11. ومن ذلك التوقف عن نصرة القضية عند توقف الحرب المعلنة، وهذا لا شكَّ أنه من التخاذل الذي يقضي على القضية مع الأمد، وهو خلاف سُنة الله تعالى في وجوب استمرار العمل الصالح.
  12. ومن أعظم المحاذير جرأة بعض الشباب على التعدي في المواقف، كمن يقول: لا يجوز الدعاء لفرقة معينة، أو يلمح في كلامه إلى أن بعضًا من هناك كاليهود، والنصارى، أشد منهم، نعم هؤلاء قلة بل ندرة لكن بما أنه وقع فينبه عليه.

وغير ذلك من المحاذير التي يدركها العاقل فالحذر من الوقوع فيها وأمثالها، فإنَّ عظم الأحداث قد يجعل أمام البصر والبصائر غشاوة.

  • ولعل من الختام لهذه الكلمات إحسانها، ومن الإحسان:
    التذكير بأهمية المراجعة، والتقويم، والمصارحة، والمكاشفة للنفس، ومن ثم التصحيح، وبناء الخطط المستقبلية في ضوء هذا التصحيح؛ لينتقل الناس إلى مواصلة البناء، والتربية، والإعداد الإيماني، وزرع القيم العظيمة، وهذا ليس للفلسطينيين فحسب؛ بل لعامة المسلمين في كل مكان.
  • الإلحاح على الله -جل وعلا- بالدعاء الصادق للموتى بأن يحتسبهم -جل وعلا- شهداء عنده، وللجرحى، وللأيتام، والأرامل، للضعفاء، والفقراء، وعامة المصابين، والمقاومين، وغيرهم، فأمام المسلمين برنامج طويل، فالواجب ألا يتوقف الدعاء والصدق فيه.

هذه كلمات وتأملات أعلم يقينًا أنها لا يغيب أكثرها عن الإخوة في فلسطين، وفي غير فلسطين ولكنها شيء مما يختلج في الصدر، وهي من الذكرى، والتناصح، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ﴾ [الأعلى: 10] مع شعور الكاتب وموقع شبكة السُّنة النبوية بالتقصير في هذه القضية وغيرها.

نسأل الله تعالى أن يثيب على الصواب، وأن يعفو عن الخطأ والزلل، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل هذا الحدث نصرًا عظيمًا لفلسطين خاصة، وللمسلمين عامة، وأن يدمر اليهود، وأعوانهم، ويرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأن يبطل خططهم، ويفشل مساعيهم، وأن يجعلهم عبرة للعالمين، ويفرق كلمتهم، وأن يعلي -سبحانه- دينه، وينصر مَن نصر دينه، وأن يرحم الموتى، ويحسن العزاء في ذويهم، ويرزقهم الصبر والاحتساب، وأن يشفي الجرحى والمرضى، وأن ييسر أرزاقهم، وأقواتهم، ودواءهم، ومقدرات حياتهم، وأن يقوي ضعفهم، ويسخر لهم من هو أقوى منهم، وألا يكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى أحد سواه طرفة عين، وأن يجعل العاقبة لهم، وأن يجزي خير الجزاء من دعا لهم، وعاونهم ماديًّا، ومعنويًّا، وإعلاميًّا، وصحيًا، وغيرها، حكومات، وشعوبًا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.