home-icon
الإسلام ومنهج البناء الفردي

في السيرة النبوية فُرصة عظيمة للتأمل والنظر في قضايا كلية وجزئية، جماعية وفردية، تدفع بالفرد والمجتمع إلى دائرة أخرى تتسم بكثير من الإيجابيات والمنافع وتتلافى كثيرًا من السلبيات والمضار.

وهنا نقف متأملين لمسألة تهم كل فرد، وكل مجتمع وبخاصة لنا نحن المسلمين، الذين نجعل من سيرة المصطفى ﷺ قدوة يحتذى في الكبير والصغير.

ونبدأ بتمهيد لهذه المسألة، وذلك في عدة أمثلة لنصل إلى النتيجة المرادة التي يمكن أن تقرر سلوكًا عمليًّا نافعًا.

المثال الأول: لقد عاش النبي ﷺ جزءًا من حياته قبل البعثة، وكان المجتمع آنذاك يعج بكثير من السيئات، وفيه بعض القضايا الحسنة التي كان العرب يتعاملون بها بينما كانت السلبيات هي الطاغية عليه، وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان، والتباهي بهذه الآلهة بل والتباكي عليها وعندها، وأشد من ذلك أن تُبنى مسالك الحياة على عبادة تلك الآلهة كالدعاء وطلب الحاجات، والذبح، والتقديس، وغيرها مما هو سائد في الجاهلية، ناهيك عن بعض السلوكيات التي تأباها فطرة الإنسان فضلًا على عقله كوأد البنات.

وُجد النبي ﷺ في هذه المجتمع، ونفر من كل هذه السيئات والخطايا الكبرى، حتى بُعث ﷺ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان التركيز على بناء الشخصية من الأصل: فكان التركيز على بناء شخصية المسلم عقديًّا فالعبادة تكون لله وحده، وتنفي جميع ما يعبد سواه سبحانه، لذلك كان النبي ﷺ يردد قولوا: «لا إله إلا الله»، ولا أدل على ذلك من محاولته مع عمه أبي طالب عند موته: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله».

وهذه اللبنة الكبيرة في البناء بل هي أساس البناء كله الذي تقوم عليه الحياة، عبادة لله وحده، وهي في الوقت نفسه تعالج جميع السلبيات التي كانت سائدة وموجودة.
هذا يوصلنا -ونحن في مسيرة حياتنا- إلى أن نجدد هذا الأصل ونعمقه حتى يسلم البناء كله.

وخلاصة هذا المثال: أن تُبنى شخصية المسلم على هذا الأصل الكبير والعميق المتين.

المثال الثاني: مما تقوم عليه الحياة التعامل بين الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، ولا يمكن للإنسان أن يعيش ويعمل وحده بعيدًا عن الناس، وهذا يفرض على الإنسان أن يتعامل وفق نظام وآلية ترقى به للنتائج الإيجابية، لذلك كان هذا الأصل واضحًا جليًّا في سيرته ﷺ، حتى وصل إلى درجة عليا حتى في عيون أعدائه، فلننظر إلى ما يلي:

  • قبل البعثة كان يسمى: الأمين، فاشتهر ﷺ بالصدق والأمانة، وقصة بناء الكعبة المشهورة لما دخل ﷺ فقالوا: جاء الأمين.. جاء الأمين.
  • في المبدأ قال ﷺ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وكلمة متمم تشعر بمواصلة البناء لشخصيته ﷺ، وللشخصية المسلمة بعامة.
  • وصف ﷺ –كما في شمائله- بأنه لم يكن فحاشًا ولا صخابًا.
  • وقال عنه تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4] وهذا يعم جميع الأخلاق حتى مع المخالفين.
  • وقال عنه تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
  • وكان ﷺ عفوًا عن المسيء، كريمًا لا يجاريه كريم، محبا للآخرين، مقدرًا لهم، شاكرًا لمحسنهم رؤوفًا رحيمًا، قال عنه تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ﴾ [التوبة: 128].

والأحوال والأقوال أكثر من أن تحصر، خلاصة أن يقوم الفرد في تعامله على بناء من هذه المكارم، هكذا تبنى الشخصية الحق بناءً سليمًا، فلا كذب ولا خيانة ولا غضب أو حنق، ولا بخل أو إمساك، ولا موت للشعور والمشاعر، ولا قسوة أو ظلم، وكل هذه المعالم في التعامل ينفيها المسلم من شخصيته الحقة.

المثال الثالث: جزء من حياة الإنسان، ولا تقوم إلا به، هو المال فلا تستقيم الحياة بدون مال، بل هو عصب الحياة كما يقال، والمال سبب السعادة فيما إذا استُخدم في حقه، وسبب للشقاء إذا استخدم في غير حقه.
لذلك كان النبي ﷺ يتعامل مع هذا المال بغاية من الدقة، مثل:

  • اعتباره أنه مال الله: ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾.
  • أن يحب أنه يورد من الحلال، فقال ﷺ: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا»: «وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به». وجُعلت المساحة كبيرة للموارد الحلال، بل هي الأصل، وإنما الممنوع هو المستثنى وذلك لما يترتب على التعامل فيه من أضرار على الآخرين، كالربا وأكل أموال الناس بالباطل والسرقة والغش والخداع والظلم، أو يستخدم في طلبه من المحرمات. ونحو ذلك.
  • أنه ينفقه في مجالاته المباحة من غير بخل أو إسراف، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان أجود بالخير من الريح من المرسلة. وكان يحث على الإنفاق، بل الاستمتاع بهذا المال من خلال الإنفاق على النفس والأسرة فلما ذكر ﷺ مجالات الإنفاق: «وخيره درهم تنفقه على أهلك» وفي مجال الأجر والثواب قال ﷺ: «حتى ما تضعه في في امرأتك».

ولذا فإن من البناء العناية بالمال عناية دقيقة موردًا ومصرفًا وإنفاقًا، ومن ذلك:

  • الإنفاق على النفس، والأسرة بالمعروف من غير إسراف وتبذير أو بخل.
  • إخراج الزكاة الواجبة.
  • الإنفاق على الفقراء والمساكين بما يستطيع ولو بالقليل.
  • الإنفاق على مشروعات الخير المتعددة ولو بالقليل.
  • الهدايا والهبات للأقارب والأصدقاء.
  • البُعد عن الحرام بكُل أشكاله.
  • البُعد عن المشتبهات حتى لا يقع المتعامل في الحرام.
  • البُعد عن حمل النفس ما لا تطيق.

هكذا تبنى الشخصية المسلمة المالية ليثمر التعامل مع المال بناء سليمًا في الدنيا والآخرة.

المثال الرابع: العناية بالنفس، جسميًّا وعباديًّا، وعقليًّا وعلميًّا وغير ذلك مما يجب الاعتناء به.

فالنبي ﷺ بعثه الله بـ «اقرأ» إشارة إلى البناء العلمي.

ووجهه ربه جل وعلا: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴿١﴾ قُمْ فَأَنذِرْ ﴿٢﴾ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿٣﴾ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿٤﴾ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ ﴿٥﴾ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿٦﴾ وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ ﴿٧﴾ [المدثر: 1-7]، كلها مجالات للبناء الدعوي ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾.

والبناء الجسمي وتطهيره: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.

والبناء العقدي: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾، ﴿وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ﴾.

والبناء الخُلقي: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾.

كل هذه تتدرج تحت العناية بالنفس وبنائها والارتقاء بها إلى معالي الأمور.

وهذا يحتم على الفرد إعادة النظر إلى نفسه، ويكلفها ببرامج في ضوء هذه المقررات للبناء النفسي، وأن يأخذ ذلك بجد وحزم وفي الوقت نفسه بنفس طويل بدون شد أو توتر، أو إرخاء وفتور.

هكذا نبني شخصياتنا بناء سليمًا.

وهذا سبيل للبناء المجتمعي، فالمجتمع يتكون من أفراد، والفرد في مشروعاته يلتقي مع مشروعاته الآخرين فيكمل بعضها بعضًا، وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل لعله يتيسر في مناسبات أخرى.

وفق الله الجميع لكل خير.

وصلَّى الله وسلم على رسوله.